شريان «التكامل الإستراتيجى» بين مصر والسودان

شريان «التكامل الإستراتيجى» بين مصر والسودان

 

تابعت باهتمام زيارة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السودانى، مصر، والمؤتمر الصحفى الذى عقده مع ممثلى الصحافة ووسائل الإعلام، الذى أوضح فيه أن مصر تدعم الدولة السودانية، وليس العسكريين أو المدنيين، وأن هناك علاقة أزلية وراسخة بين السودان ومصر، حيث يوجد فى مصر قرابة 4 ملايين سودانى يعيشون مع إخوانهم فى مصر جنبا إلى جنب دون تفرقة أو مشكلات.

السودان بالنسبة لمصر هى عمقها الإستراتيجى، وأمنها القومى، والعلاقات بين الدولتين راسخة رسوخ النيل العظيم الذى يجرى منذ آلاف السنين دون توقف أو أزمات.

يقع السودان على حدود مصر الجنوبية، ويبلغ طول الحدود البرية بين الدولتين نحو 1276 كيلو مترا تقريبا. كما تشترك الدولتان فى مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، الذى تأسس فى 2020، ويضم 8 دول (مصر، والسعودية، والسودان، واليمن، والصومال، وإريتريا، والأردن، وجيبوتى).

الحدود البرية الطويلة والممتدة خلقت علاقات اجتماعية عميقة من المصاهرة والنسب، وتداخل القبائل على الحدود بين الدولتين، فهناك قبائل يعيش جزء منها فى الجانب المصرى، والآخر فى الجانب السودانى دون تمييز أو انقطاع صلات بين الطرفين.

أبرز أشكال التداخل والتمازج والانصهار تمثلت فى أول رئيس جمهورية مصرى، الرئيس الراحل محمد نجيب، وهو من مواليد «ساقية أبوالعلا» بالخرطوم لأب مصرى وأم سودانية، اسمها زهرة محمد عثمان، وحكم مصر كأول رئيس جمهورية بعد استقلال مصر فى 1952.

 

لم يكن محمد نجيب استثناء أو حالة خاصة لم تتكرر، كما يشيع بعض الخبثاء والمغرضين، والدليل على ذلك أن ثالث رئيس جمهورية بعد الاستقلال، الرئيس الراحل أنور السادات، كان امتدادا لذلك، وليس بعيدا عنه.

 

الرئيس الراحل أنور السادات، بطل الحرب والسلام، والدته السيدة «ست البرين» مولودة فى مدينة «دنقلا» السودانية لوالد سودانى وأم مصرية، وتزوجها والد الرئيس السادات حينما سافر إلى السودان فى 1914، وأنجب منها الرئيس أنور السادات الذى تولى رئاسة الجمهورية بعد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

هذه هى حقائق التاريخ التى تؤمن بها الأغلبية الكاسحة من المصريين والسودانيين، بعيدا عن الأصوات النشاز المدعومة بأجنداتها وأغراضها الخاصة من هنا أو هناك.

منذ بدء ولاية الرئيس عبدالفتاح السيسى ولديه رؤية إستراتيجية واضحة فى التعامل مع دول المنطقة وأزماتها، خاصة فيما يتعلق بدول الجوار والدول العربية.

هذه الرؤية قائمة على ضرورة الحفاظ على هوية الدولة الوطنية وكياناتها ومؤسساتها بعيدا عن المشكلات والصراعات الداخلية.

مصر لا تتدخل فى شئون الدول الأخرى، ولا تتدخل فى اختيارات الشعوب، لكنها تساند الدول من أجل الحفاظ على مقوماتها الأساسية، حتى لا تنهار تلك الدول، وتصبح الشعوب هى الخاسر الوحيد.

هذا ما تفعله مصر الآن فى السودان، وهو ما أكده الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السودانى، أن مصر تساند الدولة السودانية بكل مكوناتها، ولا تنحاز لفريق على حساب آخر، وكل ما يهمها هو وحدة وسلامة السودان، ودعم الدولة السودانية من أجل عبور المرحلة الانتقالية بأمان، وتمكين الشعب السودانى من اختيار ممثليه بحريته الكاملة.

العلاقات بين مصر والسودان علاقات تاريخية وممتدة وعميقة، حيث ظلت الدولتان دولة واحدة، وكان ملك مصر هو ملك مصر والسودان منذ أن فتح محمد على السودان، حفاظا على استقلالها، وعدم استعمارها من الدول الغربية. ووصلت حدود السودان جنوبا فى عصر الخديو إسماعيل إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا، وتم رفع العلم المصرى، وكان أول علم رسمى لحكومة منتظمة، وظل هذا الوضع ساريا حتى 1890 حينما أعلنت إنجلترا حمايتها على أوغندا.

الآن، ونظرا للمخاطر التى تهدد النيل بعد بناء السد الإثيوبى، فإن الحاجة إلى تدعيم العلاقات الإستراتيجية بين الدولتين باتت ضرورة أكثر من أى وقت مضى.

 

المياه قضية وجودية تهدد وجود الشعبين المصرى والسودانى، باعتبار أن الدولتين هما دولتا المصب، والمتضررتان الأكثر من السد الإثيوبى إذا استمرت إثيوبيا فى عنادها، والسير بشكل أحادى فى ملء وتشغيل السد.

 

البيان المشترك، الذى صدر عن اجتماع الرئيس عبدالفتاح السيسى، والفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السودانى، أكد أن الجانبين تباحثا حول تطورات السد الإثيوبى، وتوافقا حول استمرار التشاور المكثف والتنسيق المتبادل، نظرا للأهمية القصوى لقضية المياه بالنسبة للشعبين المصرى والسودانى، بوصفها مسألة أمن قومى، وتمسك الدولتين بالتوصل إلى اتفاق عادل ومنصف وملزم لعملية ملء وتشغيل السد، بما يحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف.

الدولتان تواجهان عنادا إثيوبيا، ومراوغة غير مسبوقة، هدفها التملص من بنود إعلان اتفاق المبادئ الذى تم توقيعه فى الخرطوم، وألزم الطرف الإثيوبى بقواعد محددة بشأن ملء وتشغيل السد، والدراسات الفنية، والمدد الزمنية المقترحة، وغيرها من البنود الواضحة والصريحة التى انتهكتها اثيوبيا «بفجاجة»، ودون أسباب واضحة أو مفهومة.

 

مصر والسودان لا تضمران عداء لإثيوبيا، وتؤيدان تنميتها واستقرارها مع الحفاظ على حقوق دولتى المصب (مصر والسودان) فى حصتهما التاريخية من مياه النيل، لأن المياه بالنسبة لهما قضية وجودية وحياتية، وليست قضية تنمية كما هو الحال فى إثيوبيا.

 

قضية النيل الوجودية هى القضية الأولى بالرعاية والاهتمام لدى الشعبين، وبعدها تأتى باقى القضايا الأخرى، لأنها تتعلق بحياة أو هلاك الشعبين المصرى والسودانى.

 

السودان يمر بمرحلة دقيقة، والدعم المصرى للسودان لا يتعلق بزمان أو مكان أو فصيل معين، وإنما هو دعم للشعب السودانى بكل أطيافه، وفى كل مناطقه، وفى مختلف الأزمان، للارتباط الوثيق بين الأمن القومى المصرى والسودانى.

 

هناك أكثر من 4 ملايين سودانى يعيشون فى وطنهم الثانى (مصر)، ليسوا كلاجئين أو حتى ضيوفا، ولكنهم أصحاب دار، كما يقولون، وهناك مناطق معروفة بأغلبيتها من المواطنين السودانيين، وبحمد الله لا تحدث مشكلات من أى نوع باستثناء المشكلات التى تحدث بين أفراد الأسرة الواحدة، وأبناء الوطن الواحد.

 

ليس هذا فقط، وإنما صدرت قرارات بإعفاء الطلبة السودانيين من نسبة كبيرة من المصروفات الدراسية، تخفيفا عنهم، ومراعاة للظروف الحالية، وكذلك معاملة المواطنين السودانيين معاملة المصريين فى العلاج، وتقديم ما يقرب من 4 آلاف منحة دراسية مجانية للطلبة السودانيين فى الجامعات المصرية.

 

على الجانب الآخر، هناك مشروع للربط الكهربائى بين الدولتين، حيث تمد مصر السودان بنحو 80 ميجاوات، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 200 ميجاوات بنهاية العام الحالى، إلى جانب مشروعات الربط بين خطوط السكك الحديدية، الجارى تنفيذها لتحقيق حلم خط سكك حديد «القاهرة ـ الخرطوم»، بما يتماشى مع التوافق والانسجام بين الشعبين، ويسهم فى تسهيل حركة التنقل والسفر بين الدولتين بأقل تكاليف.

 

الطموح كبير فى العلاقات بين الشعبين، لأن التكامل بين الدولتين لم يعد هو السقف الذى نسعى إليه، وإنما الوحدة هى الهدف الذى يجب العمل من أجله بين الحكومتين والشعبين، للوصول إلى ذلك الهدف الأسمى الذى يحقق مصلحة الدولتين، ويلبى طموح الشعبين الشقيقين.

Back to Top