الأراضى الفلسطينية فوق «صفيح ساخن» فى رمضان
الأراضى الفلسطينية فوق «صفيح ساخن» فى رمضان
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
وكأن الأراضى الفلسطينية على موعد مع التصعيد فى رمضان من كل عام، حيث اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلى فى رمضان من العام الماضى ساحات المسجد الأقصى، واعتدوا على المصلين فى “جمعة الوداع”، مما أسفر عن إصابة أكثر من 205 مدنيين فلسطينيين فى المسجد الأقصى وباب العامود والشيخ جراح.
بعدها تصاعد العنف الإسرائيلى على الفلسطينيين فى غزة إلى درجة غير مسبوقة، واستمرت هذه المواجهات الدامية قرابة الأسبوعين، حتى نجحت مصر، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى إنهاء هذه الأعمال، ووقف إطلاق النار بين الطرفين يوم الجمعة الموافق 21 مايو برعاية مصرية.
فى رمضان هذا العام يكاد السيناريو يتكرر بشكل مختلف، حيث تقوم القوات الإسرائيلية بالتصعيد، واستهداف الفلسطينيين فى جنين ورام الله وبيت لحم، وغيرها من مناطق الضفة الغربية.
الجنود الإسرائيليون يستخدمون «القوة المميتة»، بحسب تعبير ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمم المتحدة، الذى عبر عن قلق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، من تدهور الأوضاع الأمنية، وتصاعد أعمال العنف فى الضفة الغربية، مشيرا إلى أن تصاعد العنف فى الضفة أودى خلال 48 ساعة فقط بحياة 6 فلسطينيين، من بينهم طفل يبلغ من العمر 14 عاما، ومطالبا قوات الأمن الإسرائيلية بممارسة أقصى درجات ضبط النفس، وألا تستخدم «القوة المميتة».
للأسف الشديد تلجأ قوات الأمن الإسرائيلية دائما إلى استخدام «القوة المميتة»، ولا تفرق فى ذلك بين النساء أو الرجال أو الأطفال، حيث قتلت إسرائيل 341 فلسطينيا، واعتقلت 8 آلاف آخرين خلال العام الماضى.
أما فى الثلث الأول من العام الحالى، فقد استشهد أكثر من 40 فلسطينيا، منهم 10 من بلدة جنين وحدها، والباقون من بلدات متفرقة، من بينهم امرأتان، هما غادة إبراهيم سباتين من بيت لحم، التى أطلق الجنود الإسرائيليون النار عليها دون سبب، وهى أرملة وأم لستة أطفال. وفى يوم استشهاد غادة نفسه، قتلت قوات الاحتلال مها كاظم عوض الزعترى، البالغة من العمر 24 عاما، من سكان الخليل.
هكذا تمارس إسرائيل أقصى درجات العنف ضد المرأة الفلسطينية، ولا تفرق بين الرجال أو النساء أو الأطفال، فالكل هدف لـ«القوة المميتة» الإسرائيلية، التى تملك العتاد والقوة والأسلحة الثقيلة والخفيفة، فى حين يواجه الفلسطينيون الموت بصدورهم وأجسادهم.
إسرائيل الآن تستغل انشغال العالم بأحداث أوكرانيا، وتمارس العنف ضد الفلسطينيين، والعالم يقف «صامتا»، ويكيل بمكيالين.
تقوم أمريكا وأوروبا بدعم أوكرانيا بالسلاح والمال ضد الغزو الروسى، فى حين تصمت عن جرائم إسرائيل، ولم يصدر عنها سوى بيان ضعيف وغير واضح المعالم يتحدث عن التهدئة بين الطرفين وكأن أمريكا لا ترى إلا بعين واحدة.
على الجانب الآخر، فقد تحرك مجلس الأمن، واجتمع عدة مرات، لمناقشة الأوضاع فى أوكرانيا، فى حين اختفت القضية الفلسطينية من على شاشات المجلس. حتى الأمين العام، أنطونيو جوتيريش، «بلع لسانه»، كما يقولون، واكتفى بتصريح «هزيل» و«متواضع» على لسان المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك.
هذا هو المشهد العالمى الآن، الذى يكيل بمكيالين، مما زاد من شعور الظلم والاضطهاد لدى الفلسطينيين، فى ظل احتلال دام أكثر من 55 عاما، منذ 1967 وحتى الآن، للأراضى الفلسطينية.
لم تكتف إسرائيل باحتلال الأراضى الفلسطينية، لكن خضوعها لحكومات يمينية متطرفة، جعلها تمارس أقصى الضغوط على الفلسطينيين، وتدعم الاستيطان بشكل سرطانى، وتقوم بالتضييق والحصار على الفلسطينيين، مما يجعلهم بين خيارين: الموت جوعا أو استشهادا.
ازدادت الضغوط على الفلسطينيين منذ تولى بنيامين نيتانياهو مسئولية رئاسة الوزراء فى إسرائيل خلال الفترة من 2009 إلى 2021.
سخر نيتانياهو سنوات حكمه، التى امتدت إلى ما يقرب من 12 عاما، للتنكيل بالفلسطينيين، وزرع الشك والكراهية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبذل أقصى جهود لوأد حلم الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، من خلال زراعة المستوطنات فى كل مكان.
وجود نيتانياهو على رأس الحكومة، فى أطول مدة لرئيس حكومة إسرائيلية فى التاريخ، أسهم فى تزايد نفوذ اليمين المتطرف، وتراجع الوسط واليسار والمعتدلين بعد أن مارس نيتانياهو ألاعيبه الشيطانية فى الوقيعة بين الأحزاب، واستخدم لغة التخوين والتآمر ضد كل معارضيه.
ساعدت الأوضاع المتوترة التى عاشها العالم العربى منذ 2011 نيتانياهو على «الانفراد» بالفلسطينيين، وممارسة أبشع الضغوط عليهم، وقتل وإصابة الآلاف من الفلسطينيين، واعتقال عشرات الآلاف فى أبشع جرائم للتفرقة العنصرية والإبادة الجماعية لشعب «أعزل» لا يملك سوى «الحجارة» فى مقاومته للعدوان الغاشم والأثيم، الذى يملك أحدث المعدات والآلات العسكرية.
حينما رحل نيتانياهو تنفس الفلسطينيين الصعداء على أمل أن يعدل خليفته عن أفكار سلفه المتطرف، التى لم تجلب الأمن للإسرائيليين، وأسهمت فى ازدياد الأمور تعقيدا.
للأسف الشديد، ولدت حكومة نفتالى بينيت كـ«الجنين المشوه»، لأنها جاءت نتيجة ائتلاف برلمانى «هش» من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ليصبح غير قادر على الصمود فترة طويلة، خاصة بعد أن انسحبت منه مؤخرا النائبة اليمينية المتطرفة عيديت سليمان، لأنها تريد المزيد من التشدد والتطرف ضد الفلسطينيين بحسب أفكارها المتطرفة، التى لا تعترف بالفلسطينيين، وتريد محوهم من الوجود.
على الجانب الآخر، يجلس نيتانياهو من وراء ستار فى مقاعد المعارضة يغذى التطرف، ويشعل نيران الكراهية، ويعمل ليل نهار على الوقيعة بين أعضاء "الائتلاف الهش" الحالى للحكومة الإسرائيلية. وقد رحب على الفور باستقالة النائبة المتطرفة عيديت سليمان، ووجه حديثه لها قائلا: «أرحب بك مجددا فى أرض إسرائيل، وفى المعسكر الوطنى».
هكذا لا يعترف نيتانياهو إلا بكل ما هو يمينى متطرف، ويلصق تهم الخيانة والعمالة بالآخرين، بل ينزع عنهم هويتهم الوطنية الإسرائيلية.
للأسف الشديد يسير نفتالى بينيت على نهج نيتانياهو نفسه، معتقدا أن ذلك قد يمنحه المزيد من الأصوات، تحسبا لانتخابات برلمانية مبكرة إذا انهارت الحكومة الحالية.
استمرارا لذلك النهج العدوانى، اقتحمت أعداد كبيرة من قوات الشرطة الإسرائيلية ساحات المسجد الأقصى عقب فجر الجمعة الماضى، وأصابت أكثر من 150 فلسطينيا من المصلين، واعتقلت أكثر من 100 آخرين، لتزداد الأجواء توترا واشتعالا بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
اقتحام المسجد الأقصى يشكل جريمة حرب بحسب القوانين الدولية التى تعتبر انتهاك الأماكن المقدسة واقتحامها من جرائم الحرب.
ليس هذا فقط بل إن هشاشة الحكومة الإسرائيلية وضعفها جعلها تخضع لأهواء المستوطنين، حيث سمحت لهم بإقامة 21 بؤرة استيطانية جديدة فى منطقة غور الأردن، وهى المنطقة التى تشهد توترا متزايدا نتيجة اعتداء المستوطنين على الفلسطينيين، واستيلائهم على بيوتهم ومعداتهم الزراعية، وإجبارهم على التهجير والرحيل من أماكنهم.
اللافت للانتباه أن الاعتداءات الإسرائيلية فى هذه المرحلة تقع ضمن مناطق السلطة الفسطينية، التى يتزعمها الرئيس الفلسطينى محمود عباس فى رام الله، مما دعاه إلى عقد اجتماع طارئ للجنة المركزية لحركة «فتح» من أجل تدارس الخطوات المقبلة فى مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.
من بين المطروح للتداول على طاولة السلطة الفلسطينية الآن تعليق الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو 1967، والاستمرار فى الانتقال من مرحلة السلطة إلى الدولة، وإنهاء التزامات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بالاتفاقيات كافة مع سلطات الاحتلال، ووقف التنسيق الأمنى بأشكاله المختلفة.
كل ذلك بسبب سوء تقدير الحكومة الإسرائيلية الموقف الحالى، وعدم التفرقة، بين قطاع غزة أو الضفة، وجعل كل المناطق الفلسطينية «مستهدفة»، بما فيها مناطق السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية أو الفصائل الفلسطينية فى غزة.
أتمنى أن يرتفع قادة الفصائل الفلسطينية إلى مستوى التحدى والمسئولية، وأن يعودوا جميعا خطوة إلى الوراء، لإفساح المجال أمام حوار وطنى شامل وجاد فى القاهرة خلال الأيام القليلة المقبلة، قبل أن تنفجر الأوضاع من جديد، وتخرج عن «السيطرة» من أجل «لم شمل» الفلسطينيين، وإعادة ترتيب البيت الفلسطينى، واستكمال مسارات إنهاء الانقسام الداخلى، وتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية بعيدا عن الانقسام والتشرذم الحالى، الذى لا يصب إلا فى مصلحة الإسرائيليين واليمين المتطرف منهم، سواء أكان نيتانياهو أو خليفته نفتالى بينيت أو غيرهما.
أعتقد أن الظرف العالمى موات الآن من أجل المطالبة بالمساواة والعدالة بين القضيتين الفلسطينية والأوكرانية، ووقف العدوان الإسرائيلى، والاعتراف بشرعية قيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
فقط تبقى وحدة الفلسطينيين هى طوق النجاة الوحيد أمام طوفان الكراهية والتعصب والعنف الإسرائيلى، ووقف هذا "الطوفان" الجائر بعد 74 عاما من قيام دولة إسرائيل، و55 عاما من احتلال الأراضى الفلسطينية منذ العدوان الإسرائيلى فى 1967.