حديث «الأمل» من أقصى الجنوب فى توشكى
نشر بالأهرام الأحد ـ 24 أبريل
حديث «الأمل» من أقصى الجنوب فى توشكى
«ليس من رأى كمن سمع».. هذه مقولة حقيقية تماما، فمهما سمعت لا يمكن أن تصل إلى درجة اليقين إلا حينما ترى بنفسك وتشاهد الحقائق على الأرض.
ظلت «توشكى» عقودا عديدة تراوح مكانها، فلا هى ظلت على حالها، ولا هى اكتمل مشروعها الذى كان مقررا لها، والذى كان يستهدف استصلاح واستزراع 540 ألف فدان.
ظهرت فكرة تنمية الأراضى حول منخفض توشكى مواكبة لفكرة إنشاء السد العالى، وأجريت عدة دراسات عام 1963 حول الاستفادة من مياه بحيرة ناصر فى زراعة الوديان وتغذية الخزانات الجوفية فى الواحات الخارجة ومناطق جنوب الوادى.
فى عام 1969 تم طرح الدراسات من جديد حول المشروع لكنها لم تر النور، وأعيد طرح المشروع مرة أخرى عام 1975 فى إطار مخطط لتنمية الصحراء الغربية لكنه لم ير النور أيضا.
فى عام 1980 صدرت دراسة عن مشروع واد جديد يبدأ من توشكى مارا بجنوب الوادى فى الخارجة والداخلة والفرافرة والواحات البحرية وينتهى عند منخفض القطارة ولم يكن حظ هذه الدراسة أفضل من المحاولات السابقة التى لم تر النور.
فى عام 1997 تبنى المرحوم د. كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق فكرة تنفيذ المشروع، وبالفعل قام الرئيس الراحل حسنى مبارك بطرح المشروع للتنفيذ لكنه واجه عقبات كثيرة، وتوقف العمل فى المشروع قبل أن يدخل حيز التنفيذ.
هكذا ظل هذا المشروع يراوح مكانه حتى تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مسئوليته كرئيس للجمهورية، ووضع مشروع توشكى ضمن أولويات الدولة والاستفادة من الأراضى الصالحة للزراعة فى تلك المنطقة ضمن خطط التوسع فى المجال الزراعى التى تستهدف اضافة 4 ملايين فدان للرقعة الزراعية من بينها مشروع توشكى، ومشروع الريف المصرى، ومشروع تنمية شمال ووسط سيناء، بالإضافة إلى مشروع الدلتا الجديدة.
هذه المشروعات تعنى بوضوح إضافة 50% إلى مساحة الرقعة الزراعية فى مصر ليكون ذلك الإنجاز هو الإنجاز الأضخم فى مجال الزراعة منذ عصر محمد على.
يوم الخميس كان موعدنا للذهاب إلى توشكى لمشاهدة ما حدث على أرض الواقع.
هذه هى المرة الأولى التى أذهب فيها إلى توشكى، والطريق إلى توشكى ليس سهلا فهى فى أقصى الجنوب ــ واسمها يعنى باللغة النوبية موطن نبات الغبيرة وهو نوع من الزهور الطبية العطرية ــ وتقع فى جنوب الوادى الجديد فى الصحراء الغربية، وتبعد عن جنوب أسوان بنحو 250 كيلو مترا، وتقع غرب درب الأربعين الذى يصل بين مصر والسودان عبر الواحات الخارجة.
التحضير للذهاب اقتضى مغادرة المنزل فى منتصف ليل الأربعاء للذهاب إلى قاعدة شرق العسكرية حيث قام الوفد الصحفى بركوب طائرة عسكرية أقلتنا إلى مطار أبو سمبل بعد رحلة طيران استغرقت نحو ساعتين.
بعد ذلك ركبنا من مطار أبو سمبل طائرة عسكرية أخرى إلى موقع المشروع فى توشكى بعد رحلة طيران استغرقت اقل من نصف ساعة بقليل.
وصلنا إلى موقع المشروع مع بداية شروق شمس يوم الخميس. فى الموقع شاهدنا الصحراء الجرداء القاحلة، وقد تحولت إلى مساحات خضراء مزروعة بالنخيل والقمح والنباتات الطبية العطرية.
لون القمح تحول إلى اللون الذهبى الأصفر بعد أن أصبح جاهزا للحصاد.
بعد إجراء المسحات الطبية دخلنا إلى قاعة المؤتمر حيث دخل الرئيس عبدالفتاح السيسى فى تمام السابعة صباحا لتبدأ وقائع المؤتمر.
لفت انتباهى موعد بدء المؤتمر وهو السابعة صباحا، ومعنى ذلك أن الرئيس عبدالفتاح السيسى لم ينم، أو ربما نام بضع ساعات قليلة، لأن رحلة الذهاب إلى هناك تستغرق ما لايقل عن ساعتين ونصف الساعة بالطيران.
الأرقام والحقائق فى المؤتمر أوضحت حجم الجهد الضخم الذى حدث خلال السنوات القليلة الماضية مما ساعد على امتصاص الأزمات خاصة أزمات السلع الغذائية، حيث أوضح وزير الزراعة السيد القصير أن الدولة تتعامل الآن مع قطاع الزراعة باعتباره قضية إستراتيجية ترتبط بالأمن القومى والإقليمى، وأن مصر الآن تحقق اكتفاء ذاتيا من الخضر والفواكة، وتسير بقوة لتحقيق ذلك أيضا فى باقى المنتجات الزراعية من خلال التوسع الأفقى فى المساحات والرأسى فى الإنتاجية.
بعد المؤتمر ذهبنا فى جولة ميدانية فى أراضى توشكى المستصلحة والتى كانت حلما أصبح حقيقة واقعة بعد أكثر من خمسة عقود كاملة.
مساحات ضخمة لايمكن أن تصل إلى مداها بالعين المجردة مزروعة بالقمح، وأخرى مزروعة بالنخيل، وثالثة مزروعة بنباتات ومحاصيل أخرى متنوعة.
المشروع ينفذه جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، وقد استعان جهاز الخدمة الوطنية بأحدث الأجهزة فى زراعة وحصد القمح، وكذلك فى زراعة النخيل والنباتات الأخرى.
ولأن القمح سلعة إستراتيجية فقد قام جهاز الخدمة الوطنية بزراعة 220 ألف فدان من القمح فى توشكى، والعوينات، والفرافرة، وعين دلة يبلغ إنتاجها 550 ألف طن، ومن المقرر زيادة المساحة المزروعة إلى 530 ألف فدان ضمن المرحلتين الثانية والثالثة فى توشكى ليصبح اجمالى المساحات المزروعة 750 ألف فدان تنتج مليونى طن سنويا.
بعد جولة استغرقت ما يقرب من الساعة تقريبا شهدنا خلالها إطلاق الرئيس عبدالفتاح السيسى إشارة بدء موسم حصاد القمح، وعرضا للآلات والمعدات المستخدمة فى الحصاد، وشرحا للمرحلتين الثانية والثالثة فى استصلاح أراضى توشكى.
عدنا مرة أخرى إلى قاعة المؤتمرات فى توشكى، حيث عقد الرئيس لقاء موسعا مع الصحفيين والإعلاميين الحاضرين للافتتاح.
المؤتمر استغرق نحو ساعة ونصف الساعة، استمع فيها الرئيس إلى كل التساؤلات من جميع الحاضرين، ولم يكتف ببعض الأسئلة فقط، وظل يدون كل التساؤلات بصدر رحب، ولم يبد أى تحفظ على أى من التساؤلات التى تم طرحها خلال اللقاء.
الرئيس فى إجابته عن كل هذه التساؤلات كان هادئا ومطمئنا، واستفاض فى الشرح والتوضيح فكان بحق لقاء للمصارحة والشفافية والطمأنة لكل المصريين وليس للحاضرين فقط.
سألت الرئيس عن الاقتصاد المصرى وقدرته على مواجهة الصدمات العالمية وإمكانية تحوله من اقتصاد شبه ريعى إلى اقتصاد إنتاجى وسأل الزملاء الآخرون عن قضايا النمو الاقتصادى والأسعار، وموقف المشروعات القومية خاصة مشروع تطوير الريف المصرى، وقضايا المواطنة، ودحر الإرهاب، والحوار السياسى فى الجمهورية الجديدة، والتوقعات حول مستقبل النظام العالمى بعد الأزمة الروسية/ الأوكرانية، وغيرها من الأسئلة المثارة على الساحة.
كل هذه الأسئلة وغيرها استمع إليها الرئيس بصدر رحب، ولعل أبرز الرسائل والإجابات التى استوقفتنى ما يلى:
أولا: طمأن الرئيس الشعب المصرى على قدرة الاقتصاد الوطنى على الصمود نتيجة إطلاق الإصلاح الاقتصادى عام 2016 مما جعل الدولة أكثر قدرة على مواجهة الأزمات الاقتصادية، لكن الرئيس شدد ومعه ـــ كل الحق ـــ على ضرورة ضبط النمو السكانى حتى يشعر المواطنون بالتحسن الاقتصادى، مشيرا إلى إمكانيات دولة مثل أوكرانيا وعدد سكانها الذى يقل عن نصف سكان مصر، فى حين أنها ثانى أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة بعد روسيا، وبها عشرات الملايين من الأراضى الزراعية.
ثانيا: أكد الرئيس أنه لا توقف لأى من المشروعات، وأن المشروعات القومية تسير وفق المخطط الزمنى لها، خاصة مشروع «حياة كريمة» الذى يستهدف 60% من الشعب المصرى، وأنه أطلق هذا المشروع بدافع أنه مواطن قبل أن يكون رئيسا يشعر بمعاناة ما يقرب من 60% من المصريين الذين يعيشون فى ظروف حياتية تتطلب التدخل من أجل ضمان جودة الحياة لهم وتوفير كل الخدمات مثل الصرف الصحى والغاز وتحسين قدرات الكهرباء والمياه وجميع المرافق.
ثالثا: أوضح الرئيس أن «المواطنة» هى الشعار الرئيسى للدولة المصرية، ولا تفرقة أو تمييز بين المواطنين على أساس الدين، أو أى شىء آخر، وأن الدولة نجحت فى القضاء على الإرهاب فى سيناء بعد أن كانت مستهدفة من جانب الإرهابيين، مؤكدا ثقته فى قوة النسيج الوطنى المصرى، وقدرته على لفظ كل أشكال التطرف، والعنف والإرهاب.
رابعاً: أشار الرئيس إلى تقرير صندوق النقد الدولى الذى أوضح أن هناك 143 دولة ستتأثر اقتصادياً جراء أزمتى كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، موضحاً أن الاقتصاد المصرى كان ضمن اقتصادات قليلة فى العالم حققت معدلات نمو إيجابى خلال أزمة كورونا، تراوحت بين 3٫2٪ إلى 3٫8٪ فى حين حقق الاقتصاد المصرى أعلى معدل نمو إيجابى منذ عشرين عاما بلغ 9٪ فى النصف الأول من العام المالى الحالى، إلا أن أزمة الحرب الروسية/ الأوكرانية ألحقت الضرر بالاقتصاد المصرى مثل باقى الاقتصادات العالمية، ورغم تلك الأزمة تمكنت الدولة من توفير جميع السلع الأساسية للمواطنين، وهناك احتياطيات لكل السلع لاتقل عن 6 أشهر، ولدينا الموارد المالية اللازمة لمجابهة أية أزمات محتملة.
خامساً: نبه الرئيس الحاضرين والشعب المصرى بعدم نسيان ما كان يحدث من أزمات خانقة فى قطاع الكهرباء والغاز والخبز فى عقب 2011 ولمدة ثلاثة أعوام متتالية، وهى الأعوام التى استنزفت الاحتياطى النقدى للدولة المصرية نتيجة التأخر فى علاج تلك المشكلات.
سادساً: أكد الرئيس الالتزام بقواعد المصارحة والشفافية، وعدم المجاملة فى الصالح العام، مشيراً إلى أهمية إجراء حوار سياسى يتناسب مع إطلاق الجمهورية الجديدة، وإجراء الانتخابات المحلية فى أسرع وقت ممكن.
سابعاً: أكد الرئيس حرص الحكومة على توفير مستلزمات الصناعة حتى لاتتوقف عجلة العمل والإنتاج، وحرصا من الحكومة على تخفيض معدلات البطالة، وإيجاد فرص عمل جديدة.
ثامناً: فيما يخص الأزمة الروسية / الأوكرانية أوضح الرئيس موقف مصر الإيجابى من الأزمة، ودعمها لكل مبادرات وقف الحرب، وتشجيع الحلول السياسية، والدبلوماسية.
أخيراً فإن حوار الرئيس مع الصحفيين والإعلاميين جاء فى توقيت مهم وحساس حيث يعيش العالم أزمة الحرب الروسية / الأوكرانية، وتداعياتها الاقتصادية والسياسية على دول العالم أجمع، بالإضافة إلى أن هناك من يحاولون عبثاً إطلاق شائعات بهدف تشتيت اهتمام المواطن حول ما يحدث من إنجازات على أرض الواقع، الأهم أن الحوار جاء بعد جولة عملية فى مشروع عملاق يمثل تجسيدا حقيقيا لإرادة التحدى والتنمية فى الدولة المصرية منذ عقود طويلة بعد أن نجح هذا المشروع وظهر إلى النور وبدأت مرحلته الأولى بنحو 200 ألف فدان دخلت مرحلة الإنتاج الفعلى، ومن المتوقع إضافة مرحلتيه الثانية والثالثة لتصل إلى مليون فدان قريبا إن شاء الله.