«المرونة» سلاح الاقتصاد المصرى للتعامل مع الأزمات
«المرونة» سلاح الاقتصاد المصرى للتعامل مع الأزمات
أحداث سريعة ومتلاحقة يشهدها الاقتصاد العالمى منذ اندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية فى 24 فبراير الماضى، أى منذ ما يقرب من 3 أشهر حتى الآن.
الأزمة امتدت إلى كبريات الاقتصادات العالمية لدرجة دفعت الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى ـ البنك المركزى هناك ـ إلى رفع سعر الفائدة 0٫5%، فى أكبر زيادة منذ 22 عاما، فى محاولة منه لكبح جماح التضخم فى أقوى اقتصاد فى العالم، وخشية وقوعه فى دائرة الركود.
حينما يتأثر أقوى اقتصاد فى العالم، فمن الطبيعى أن يمتد التأثير إلى باقى الاقتصادات العالمية، ومنها بالطبع الاقتصاد المصرى، وغيره من اقتصادات دول العالم المختلفة.
قبل إجراء الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى كان البنك المركزى المصرى قد تدخل هو الآخر فى التوقيت المناسب، حيث رفع سعر الفائدة، ليصل إلى 18% على الشهادات السنوية التى يصدرها بنكا «مصر» و«الأهلى». كما خفض سعر الجنيه بنحو 17% من أجل خلق محفزات جديدة، لتجاوز الأزمة، واستمرار التدفقات الاستثمارية الخارجية، وكذلك الحفاظ على معدلات تحويلات المصريين بالخارج، التى سجلت فى العام الماضى أعلى مستوى قياسى، إذ بلغت نحو 31٫5 مليار دولار.
نجحت خطة البنك المركزى الاستباقية، وعاود رصيد احتياطى النقد الأجنبى الارتفاع بنحو 41 مليون دولار فى نهاية أبريل الماضى، ليسجل 37٫1 مليار دولار مقابل 37٫08 مليار فى نهاية مارس السابق عليه، ليعاود اتزانه مرة أخرى بعد فقدانه 3٫9 مليار دولار بسبب الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، واستخدام جزء من الاحتياطات النقدية فى تغطية خروج بعض الاستثمارات الأجنبية والمحافظ الدولية، واستيراد بعض السلع الإستراتيجية، بالإضافة إلى سداد بعض الالتزامات الدولية الخاصة بالمديونية الخارجية.
أعقب ذلك قيام وكالة «فيتش» للتصنيف الائتمانى فى الشهر الماضى بتثبيت تصنيف مصر الائتمانى للمرة الرابعة على التوالى عند «B+» مع نظرة مستقبلية مستقرة، وأعلنت الوكالة عبر موقعها الإلكترونى أن تثبيت تصنيف الاقتصاد المصرى جاء بدعم من سجلها فى الإصلاحات المالية والاقتصادية.
تثبيت التصنيف الائتمانى للاقتصاد المصرى للمرة الرابعة على التوالى هو بمثابة شهادة ثقة دولية جديدة فى قدرة الاقتصاد المصرى على مواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة، التى تتشابك فيها تداعيات جائحة «كورونا» مع تداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
على الجانب الآخر، فقد خفض صندوق النقد الدولى توقعاته لنمو الاقتصاد العالمى خلال العامين الحالى والمقبل إلى 3٫6% بحسب تقرير «آفاق الاقتصاد العالمى» الأخير بسبب تداعيات الحرب الروسية ــ الأوكرانية، إلا أنه فى الوقت نفسه توقع الصندوق أن ينمو الاقتصاد المصرى بنسبة 5٫9% فى العام المالى الحالى 2021/2022، بزيادة 0٫3% نقطة مئوية عن توقعاته السابقة، وهى المرة الثانية التى يرفع فيها صندوق النقد توقعاته للنمو الاقتصادى فى مصر هذا العام.
كان الاقتصاد المصرى قد سجل فى النصف الأول من العام المالى الحالى أعلى معدل نمو منذ 20 عاما، بلغ نحو 9٪، إلا أن اندلاع الأزمة الروسية ــ الأوكرانية فرضت نفسها على الأوضاع الاقتصادية فى مصر والعالم، مما جعل الحكومة تخفض توقعاتها للنمو إلى 5٫7٪ بسبب تداعيات تلك الحرب، ومع ذلك فقد جاءت توقعات صندوق النقد أعلى من توقعات الحكومة.
ميزة الاقتصاد المصرى الآن أنه اقتصاد «مرن»، وقادر على التعامل مع الأزمات والتحديات المستجدة، وربما يكون الاجتماع الأخير للمجموعة الاقتصادية، الذى ترأسه الرئيس عبدالفتاح السيسى، نموذجا لذلك، حيث أسفر الاجتماع عن مراجعة بعض السياسات الاقتصادية الأخيرة، وأبرزها استثناء مستلزمات الإنتاج والمواد الخام من إجراءات عمليات الاستيراد التى تم إقرارها أخيرا، والعودة إلى النظام القديم عبر مستندات التحصيل.
القرار لاقى ارتياحا كبيرا فى مجتمع الأعمال، لأنه يحافظ على معدلات التشغيل فى القطاع الخاص، ويسهم فى استغلال الطاقة الإنتاجية القصوى للعديد من الشركات والمصانع بعد أن كادت عجلة العمل تتوقف نتيجة بطء الإجراءات، ونفاد مستلزمات التشغيل والمواد الخام اللازمة لتشغيل معظم الشركات والمصانع فى جميع القطاعات الصناعية.
اتحاد الصناعات المصرى أشاد بالقرار، واعتبره خطوه مهمة وأساسية فى توطين الصناعة، ودفع القطاع الصناعى إلى مزيد من النمو خلال المرحلة المقبلة.
لم يكن اتحاد الصناعات فقط هو الذى رحب بالقرار، لكن امتد الترحيب إلى جمعيات المستثمرين ورجال الأعمال، بما يشير إلى أهمية اتخاذ هذا الإجراء قبل أن تتوقف بعض خطوط الإنتاج التى تعتمد فى تشغيلها على مستلزمات تشغيل مستوردة.
الرئيس أيضا وجه بتشكيل لجنة برئاسة رئيس الوزراء، وعضوية محافظ البنك المركزى، ووزيرى المالية، والتجارة والصناعة، للقيام بالمتابعة الدورية لتقييم منظومة إجراءات الاستيراد، ومدى تلبيتها احتياجات عملية الإنتاج، بحيث يتم التوصل إلى الإجراءات المناسبة التى تسهم فى توطين الصناعة، وزيادة الإنتاج المحلى، والحد من الاستيراد، وإنهاء قوائم الانتظار التى كانت قد ظهرت خلال المرحلة الماضية، للحصول على الموافقات الخاصة باستيراد مستلزمات التشغيل.
العودة إلى العمل بمستندات التحصيل سوف تسهم فى تراجع أسعار الكثير من السلع خلال المرحلة المقبلة، خاصة أسعار الملابس، بعد تشغيل المصانع بكامل طاقتها الإنتاجية، حيث كانت مصانع الغزل والنسيج والملابس الجاهزة من أكثر القطاعات تضررا.
ما ينطبق على أسعار الملابس، والتوقع بانخفاض أسعارها، يمتد إلى باقى السلع الصناعية الأخرى التى تدخل ضمن إنتاجها مكونات أجنبية يتم استيرادها، وكادت تتوقف عجلة الإنتاج بها بعد نفاد المخزون لديها من مستلزمات التشغيل.
المهم الآن أن يتحول هذا القرار إلى أداة فاعلة، لتوطين الصناعة، والحد من الواردات التى أصبحت تمثل صداعا مزمنا فى رأس الاقتصاد المصرى، حيث يصل الخلل فى عجز الميزان التجارى إلى نحو 50 مليار دولار سنويا، بمعدل 4٫2 مليار دولار شهريا.
هذا الخلل فى العجز التجارى لن يتم حله إلا بإعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، لاستعادة توازن الميزان التجارى من خلال زيادة الصادرات، والحد من الواردات من أجل سد هذه الفجوة الرهيبة وغير المقبولة.
لن يتأتى ذلك إلا بإعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، وتحويله من اقتصاد شبه ريعى إلى اقتصاد إنتاجى، قائم على توفير الاحتياجات الصناعية والزراعية، وزيادة حجم الصادرات مع تقليص الواردات إلى أقل نسبة ممكنة من أجل استكمال مسيرة الإصلاح الاقتصادى.
رحلة صعود الاقتصاد المصرى بدأت فى 2016 حينما أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى شرارة الإصلاح الاقتصادى، وتحرير سعر الصرف، والاتفاق مع صندوق النقد على خطة إصلاح اقتصادى متكاملة.
نجاح خطة الإصلاح الاقتصادى جعل من التجربة المصرية نموذجا ملهما، ومكن الاقتصاد من القدرة على مواجهة جائحة «كورونا»، وبعدها أزمة الحرب الروسية ــ الأوكرانية.
تقرير البنك الأوروبى لإعادة الإعمار، الذى صدر أخيرا خلال الأسبوع الماضى، أكد أن الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية، التى نفذتها الحكومة المصرية خلال السنوات الست الماضية، أسهمت إيجابيا فى تحقيق النمو الاقتصادى الشامل والمستدام، وعززت قدرة الاقتصاد المصرى على مواجهة التحديات العالمية، التى بدأت بجائحة «كورونا»، وأعقبتها الحرب الروسية ــ الأوكرانية.
تقرير البنك الأوروبى جاء عقب تقارير دولية عديدة، صادرة من مؤسسات التمويل الدولية، توقعت زيادة معدلات النمو الاقتصادى المصرى، مما أدى إلى قيام مؤسسات التصنيف الائتمانى الدولية بتثبيت تصنيف الاقتصاد المصرى، وهو ما يعكس قدرة الاقتصاد على مواجهة الأزمات والتحديات العالمية.
على الرغم من كل ذلك، فهناك من يحاولون بث روح التشكيك، وعدم الثقة فى الاقتصاد المصرى من أجل زعزعة ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، وإحداث حالة من التسيب والفوضى الاقتصادية على حساب مصالح الشعب المصرى.
أعتقد أن الاقتصاد المصرى تخطى مرحلة «الصدمات»، وأصبح قادرا على التعامل الهادئ والمدروس مع الأزمات والتحديات العالمية والمحلية، وهو ما يدعو إلى الاطمئنان، وتفنيد كل دعاوى التشكيك وعدم الثقة التى يطلقها «أهل الشر»، فى محاولة «مكشوفة» لاستغلال الأزمات العالمية فى ضرب الاقتصاد الوطنى، الذى أصبح محل ثقة مؤسسات التمويل العالمية ووكالات التصنيف الدولية، التى لا تعرف المجاملة، ولا تعترف إلا بلغة الحقائق والأرقام.