مستقبل مصر فى الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الزراعية
مستقبل مصر فى الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الزراعية
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
بهدوء ودون ضجيج أو صخب، يصحو المصريون كل فترة على مشروع ضخم جديد، ربما لم يسبق الاعلان عنه أو وضع حجر أساس له، فى حين يقتصر الأمر فقط على متابعات دورية من الرئيس عبدالفتاح السيسى للقائمين على العمل أو زيارات ميدانية خاطفة، يقوم بها الرئيس، للوقوف على حجم الإنجاز بنفسه، وقبل الافتتاح الرسمى، فى سابقة جديدة لم تعهدها مصر من قبل.
مشروع «مستقبل مصر»، الذى افتتحه الرئيس عبدالفتاح السيسى أمس، نموذج لتلك المشروعات التى تظهر إلى النور كل فترة.
منذ نحو شهر، كان افتتاح موسم حصاد القمح فى توشكى.. تلك المنطقة الشديدة الوعورة التى تحولت إلى منطقة خضراء يانعة، تنبت الزرع، لتتحول إلى سلة غذاء لمصر والمصريين.
أمس كان الموعد مع افتتاح مشروع زراعى آخر، وهو مشروع «مستقبل مصر» الذى يدخل ضمن مشروع «الدلتا الجديدة»، وهو مشروع جديد عملاق، تم افتتاحه أمس بعد الانتهاء من استصلاح واستزراع أكثر من 350 ألف فدان فيه، وذلك من إجمالى المساحة المقرر استصلاحها واستزراعها، المقدرة بنحو 2٫2 مليون فدان.
بدأت عجلة العمل والاستصلاح فى مشروع «الدلتا الجديدة» منذ فترة ليست بالطويلة، حيث كان صاحب فكرة المشروع هو الرئيس عبدالفتاح السيسى، بعد استعراضه خريطة المناطق القابلة للاستصلاح، والمقنن المائى اللازم لها. وعلى الفور، بدأت الدراسات اللازمة، الخاصة بأبحاث التربة، والمياه الجوفية، ونسب الأملاح، والتى شارك فيها مئات من المتخصصين من كليات الزراعة، ومعهد بحوث الصحراء، ومركز البحوث الزراعية.
لم يكن الرئيس عبدالفتاح السيسى يعرف مسبقا الأزمة العالمية الطاحنة التى نتجت عن الحرب الروسية ــ الأوكرانية، لكنه كان يستشرف آفاق المستقبل، ويضع نصب عينيه كيفية تحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتى من الحاصلات الزراعية، خاصة بعد درس جائحة «كورونا»، وما نتج عنها من إغلاق للاقتصاد العالمى، وانكفاء كل دولة على نفسها، وما تبع ذلك من نقص المعروض على المستوى العالمى نتيجة أزمة سلاسل الإمداد الطاحنة.
خطة طموح وضعها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مجال استصلاح واستزراع الأراضى، تتضمن إضافة أكثر من 50٪ من مساحة الأراضى المزروعة حاليا إلى خريطة مصر الزراعية خلال الفترة المقبلة.
مساحة الأراضى الزراعية القديمة فى الدلتا والصعيد تبلغ نحو 6٫1 مليون فدان، بواقع 3٫5 مليون فدان تقريبا فى الدلتا، وباقى المساحة فى الصعيد. فى حين أن الخطة الموضوعة للاستصلاح والاستزراع تتضمن إضافة ما يقرب من 4 ملايين فدان إلى رقعة الأراضى الزراعية الحالية (القديمة والمستصلحة)، بما يوازى أكثر من 60٪ من المساحة الحالية.
الـ4 ملايين فدان موزعة على توشكى، والدلتا الجديدة، وسيناء، والريف المصرى، وغيرها من مشروعات الاستصلاح التى بدأت بالفعل أو تلك التى تجرى دراستها، ودراسة مقننها المائى.
مشروع «مستقبل مصر» يدخل ضمن مشروع «الدلتا الجديدة»، التى من المقرر استصلاح واستزراع ما يقرب من 2٫2 مليون فدان بها، وهى توازى 30٪ من مساحة الدلتا القديمة.
بالمقارنة بين الدلتا «الجديدة» والدلتا «القديمة»، فإن «الدلتا الجديدة» يمكن أن تستوعب أيضا نحو 30٪ من إجمالى عدد السكان فى «الدلتا القديمة»، أى مايقرب من 30 مليون نسمة.
30 مليون نسمة.. رقم لا يمكن الاستهانة به، وهو يساوى عدد السكان فى عدة دول، وربما أكثر. كما أنه يساوى أكثر من 70٪ من عدد سكان دولة أوكرانيا، التى يبلغ عدد سكانها نحو 44 مليون نسمة.
تتميز «الدلتا الجديدة» بقربها من «الدلتا القديمة»، حيث تقع بالقرب من عدة محافظات قديمة مكدسة سكانيا. وبالتالى، فإن موقعها يفتح الباب أمام خلخلة السكان بتلك المحافظات، ويستوعب أعدادا كبيرة منها، ومن باقى محافظات الجمهورية، خاصة بعد استكمال استزراع واستصلاح كامل مساحتها، وهو ما يوفر الملايين من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.
إلى جوار كل ذلك، فإن «الدلتا الجديدة» ومشروعات الاستصلاح الأخرى سوف تسهم فى توفير احتياجات المواطنين من السلع الغذائية، خاصة السلع الإستراتيجية مثل القمح والذرة والبقوليات والخضر والفاكهة وبنجر السكر.
«الدلتا الجديدة» مقسمة إلى 3 مشروعات: أولها مشروع «مستقبل مصر»، الذى يضم 500 ألف فدان تم استصلاح واستزراع نحو 350 ألف فدان منها، وجار استصلاح واستزراع باقى المساحة المقررة.
ثانى مشروعات الدلتا هو مشروع خاص بجهاز الخدمة الوطنية، ويستوعب نحو 300 ألف فدان.
أما المشروع الثالث، فهو استصلاح نحو 700 ألف فدان أخرى قابلة للزراعة. وبذلك يتم استكمال المليون ونصف المليون فدان، التى يتوافر لها المقنن المائى حتى الآن، سواء من المياه الجوفية أو من المياه المعالجة بنظام «المعالجة الثلاثية» من خلال محطة معالجة الصرف الزراعى فى منطقة الحمام، التى تبلغ تكلفتها نحو 60 مليار جنيه، وتسهم فى توفير المياه المعالجة الثلاثية لرى جزء من الأراضى فى «الدلتا الجديدة».
هناك 700 ألف فدان أخرى قابلة للاستصلاح والاستزراع فى «الدلتا الجديدة» غير المليون ونصف المليون فدان، لكن استصلاح هذه المساحة مؤجل لحين توفير المقنن المائى اللازم لها، لأن استصلاح الأراضى يرتبط دائما بوجود المقنن المائى.
مصر الآن فى مقدمة دول العالم التى تستفيد من كل قطرة مياه، سواء مياها جوفية أو نيلية أو معالجة.
استغلال المياه المعالجة يأخذ الآن الحيز الأكبر من الاهتمام، حيث تم تدشين أضخم محطتين لمعالجة مياه الصرف وهما: محطة «المحسمة» التى تبلغ طاقتها نحو مليونى متر مكعب، ومحطة مياه «بحر البقر»، وهى الأكبر فى العالم بطاقة ٥٫٦ مليون متر مكعب يوميا، وذلك لتوفير المياه اللازمة لمشروع تنمية شمال ووسط سيناء، بالإضافة إلى محطة «الحمام» التى سوف تتم الاستفادة منها فى رى أجزاء من أراضى «الدلتا الجديدة» إلى جوار المياه الجوفية.
الأمر المؤكد أن ما يحدث فى مجال استصلاح واستزراع الأراضى لم يحدث من قبل فى تاريخ الدولة المصرية منذ إنشائها، وهى المشروعات الزراعية الأضخم فى مجال الزراعة منذ عصر مؤسس نهضة مصر الحديثة محمد على.
هذه المشروعات تستهدف إضافة 4 ملايين فدان للرقعة الزراعية فى توشكى، والريف المصرى، ومشروع تنمية شمال ووسط سيناء، بالإضافة إلى مشروع «الدلتا الجديدة».
يساعد على سرعة إنجاز هذه المشروعات المتابعة الدقيقة من الرئيس عبدالفتاح السيسى لكل المشروعات، والإرادة التى لا تلين، لإنجازها بأقصى سرعة ممكنة، خاصة فى ظل المتغيرات العالمية المتلاحقة، التى أكدت أهمية تحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتى من الحاصلات الزراعية والسلع الغذائية.
ربما تكون جائحة «كورونا»، والحرب الروسية ــ الأوكرانية جرس إنذار مبكر لتغيرات عديدة مقبلة، خاصة ما يتعلق بموجات الجفاف التى ضربت أجزاء كثيرة من العالم، وأدت إلى انخفاض إنتاج الحاصلات الزراعية، لدرجة أن هناك دولا عديدة الآن، ومنها الهند، حظرت تصدير الحاصلات الغذائية، خاصة القمح، وأصبحت الأهواء السياسية تحكم قرار تصدير السلع الغذائية فى العديد من دول العالم المنتجة لها بعد أن «شحت» الحاصلات الزراعية، واستمرت أزمات سلاسل التوريد العالمية، التى بدأت مع إغلاق الاقتصاد العالمى خلال أزمة «كورونا»، وتفاقمت مع اندلاع الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، واشتعال أسعار الطاقة.
لم تقتصر الأزمة على القمح فقط، لكنه امتد إلى العديد من السلع الغذائية المتعلقة بالأمن الغذائى العالمى مثل الذرة والخضراوات والزيوت والأرز، مما جعل مؤسسة «ستاندرد آند بورز» تحذر من أزمة عنيفة فى سوق الحاصلات الزراعية والمنتجات الغذائية نتيجة ارتفاع مؤشر أسعار الغذاء بشكل غير مسبوق، وزيادتها بأكثر من 30% على مستوى العالم.
أعتقد أن استكمال خطط التوسع الزراعى باتت ضرورة حياة، لتوفير الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الإستراتيجية، وزيادة صادرات مصر الزراعية خلال المرحلة المقبلة، ويؤكد فى الوقت نفسه صدق الرؤية الاستباقية للدولة المصرية فى علاج أزمة نقص السلع الغذائية، وهو الأمر الذى انعكس على عدم حدوث نقص فى أى من السلع الغذائية أو اختفائها خلال الفترة الماضية، وأسهم فى توفير مخزون آمن من جميع أنواع السلع الغذائية، بما فيها القمح، حتى نهاية هذا العام، بعد أن دخل الإنتاج المحلى من الأراضى القديمة والجديدة على الخط، ليزيد من المخزون الإستراتيجى، ويضع مصر فى منطقة «آمنة»، بعيدا عن الأزمات العالمية «الخانقة» التى تسيطر على العالم الآن.