الحوار الوطنى بين «الضرورات» و«المحظورات» فى الجمهورية الجديدة

الحوار الوطنى بين «الضرورات» و«المحظورات» فى الجمهورية الجديدة

بقلم: عبد المحسن سلامة

منذ إطلاق الرئيس عبدالفتاح السيسى مبادرة الحوار الوطنى خلال إفطار الأسرة المصرية، فى الأسبوع الأخير من شهر رمضان المعظم، تحت مظلة «وطن يتسع للجميع» وشعار «الاختلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية»، عاد الحراك العام إلى المجال السياسى بقوة، وانتفضت الأحزاب والقوى السياسية، لكى تستعد للدخول إلى الحوار برؤية واضحة وأجندة منظمة.

 

الأكاديمية الوطنية للتدريب بدأت الإجراءات التنفيذية للحوار الوطني، وأكدت أنها سوف تقوم بإدارة الحوار بكل تجرد وحيادية، وأن دورها سوف ينحصر فى التنسيق بين الفئات المختلفة المشاركة فى الحوار دون التدخل فى مضمون ومحتوى ما تتم مناقشته من أجل إفساح المجال أمام حوار وطنى جاد وفعال وجامع لجميع القوى والفئات، لكى يتماشى مع طموحات وتطلعات القيادة السياسية، وكذلك القوى السياسية المختلفة، وبهدف إنجاز أولويات العمل الوطنى فى إطار مبدأ «الخلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية».

الأكاديمية بدأت فى توجيه الدعوات، وفى الوقت نفسه فتحت باب التسجيل على الموقع الإلكترونى للمؤتمر الوطنى للشباب لمن يرغب فى المشاركة، وفتحت الأفق والمجال أمام الجميع.

على الجانب الآخر، فقد بدأت الأحزاب والقوى السياسية، التى تلقت الدعوة، التحضير للحوار الوطنى من خلال مناقشات داخل هذه الأحزاب، أو لقاءات «مجمعة» بين عدد منها، خاصة تلك الأحزاب التى تتفق رؤاها حول بعض القضايا، خاصة ما يتعلق بالقضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.

 

 

بعض الأحزاب انتهت من وضع رؤيتها، والبعض الآخر لا يزال يناقش بعض التفاصيل والخطوط العريضة التى سوف يعتمدها ضمن رؤيته للحوار الوطني.

أعتقد أن هذه النقاشات الدائرة الآن قد أدت إلى تدفق الدماء فى شرايين الأحزاب الكبيرة والصغيرة على السواء، وأسهمت فى تنشيط المشهد السياسي، وأعادت فتح المجال العام على أوسع نطاق للنقاش والحيوية، تمهيدا للمرحلة المقبلة.

الاختلافات فى رؤية وأولويات الأحزاب للحوار الوطنى شىء طبيعى، وله دلالة صحية، والمهم أن تحترم كل الأحزاب ذلك المبدأ، بحيت «لا يتمترس» أى حزب خلف رؤيته، وكأنه صاحب الرؤية الصحيحة الوحيدة، متجاهلا رؤية باقى شركاء الحوار.

هناك أحزاب وقوى سياسية تركز بشكل أساسى على «الملف السياسى»، فى حين أن هناك أحزابا أخرى ترى ضرورة فتح النقاش العام للحوار الوطنى، وامتداده إلى القضايا الاقتصادية والاجتماعية، باعتبار أن هذه القضايا لها الأولوية لدى المواطن، وأنها ربما تسبق القضايا السياسية.

هذه الخلافات والاختلافات كلها مظاهر صحية وإيجابية، لإثراء الحوار الوطنى، خاصة فى ضوء ما يشهده العالم الآن من أزمات ومشكلات اقتصادية حادة بعد جائحة «كورونا»، ثم الأزمة الروسية ــ الأوكرانية.

ربما تكون الفائدة الوحيدة لتلك الأزمات الطاحنة التى يشهدها العالم الآن هى تأكيد مدى أهمية الدولة الوطنية، والحفاظ على مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية، بعيدا عن التقلبات السياسية الداخلية والخارجية على السواء.

كان الرئيس عبدالفتاح السيسى بعيد النظر و«سباقا» حينما بدأ ولايته بالتركيز على مبدأ الدولة الوطنية، وضرورة حماية مقوماتها الأساسية، وتثبيت أركانها ودعائمها فى مواجهة قوى الشر والإرهاب فى الداخل، أو التقلبات والاهتزازات والمؤامرات فى الخارج.

كانت الدولة المصرية على شفا الانهيار بعد أن ترعرع الإرهاب، وزادت حدته، وانتشرت الفوضى، وسقط الكثير من الضحايا الأبرياء، ومن هنا كان الحفاظ على كيان الدولة من الانهيار فريضة أساسية، وإلا لحقت مصر بدول مثل سوريا وليبيا واليمن، التى ذهبت ولم تعد حتى الآن على الرغم من كل المحاولات.

تميز التجربة المصرية ظهر بوضوح أيضا فى عدم التفرغ لمحاربة الإرهاب، وتثبيت دعائم الدولة المصرية فقط، مع أن هذا وحده يكفى وزيادة، لكن الأمر امتد فى الوقت نفسه إلى خطة عاجلة للإصلاح الاقتصادى بدأت فى 2016، وواكبها انطلاق العديد من المشروعات القومية العملاقة فى مجالات البنية الأساسية، والزراعة، والصناعة، وكل المجالات.

هذه المشروعات كانت حائط الصد فى مواجهة الأزمات العالمية التى لم يشهد لها العالم مثيلا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وربما كان التوسع الزراعى المدهش الذى حدث بإضافة ما يقرب من مليونى فدان خلال الفترة الماضية هو خير نموذج للرؤية الاستباقية بعيدة المدى للرئيس عبدالفتاح السيسى، التى أسهمت بقدر كبير فى تحقيق الأمن الغذائى للدولة المصرية، فى وقت وصلت فيه الأمور إلى أدنى مستوياتها فى دول أخرى أكثر تقدما، وأقوى اقتصاديا من مصر، حتى وصل الحال بتقييد بيع عبوات زيت الطعام بعبوة واحدة فى بريطانيا، واختفاء حليب الأطفال فى نيويورك.

أظن أن كل ذلك يخلق أرضية قوية مشتركة للحوار الوطنى الجاد، الذى يبحث عن مستقبل أفضل، ويستمد من الوضع الحالى أسباب قوته، ومبررات انطلاقه.

درة تاج الجمهورية الجديدة هى إقامة دولة مدنية عصرية ديمقراطية حديثة، تشهد تطوير وانفتاح المجال العام، وترسيخ مبادئ الديمقراطية، وتعزيز حرية الرأى، فى إطار من القواعد والأسس المتفق عليها، التى تصون وتحمى الجمهورية الجديدة من محاولات الهدم والتخريب، ومنع تكرار محاولات استدعاء الفوضى وهدم الدولة، أو تقويض أركانها، بعد أن دفعت مصر ثمنا باهظا لذلك خلال الفترة التى أعقبت ثورة يناير 2011، والتى بلغت تكلفتها أكثر من 440 مليار دولار.

للأسف الشديد هناك من يحاولون حتى الآن إعادة العجلة إلى الوراء، واستدعاء نموذج الفوضى وهدم الدولة تحت مسمى «الحريات» و«الانفتاح السياسى»، وأغلب هؤلاء فارون إلى الخارج من الجماعات الإرهابية والفوضويين والعدميين، وبعض أعوانهم فى الداخل الذين ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض، وإعادة الذكريات المؤلمة، ومحاولات الهدم والخراب مرة أخرى.

هذه المشاهد لابد أن تكون حاضرة وبقوة أمام المشاركين فى الحوار الوطنى، حتى «لا تلدغ» الدولة المصرية من قوى الشر والخراب مرتين.

لقد انتهى عصر النموذج الأوحد فى العالم، بمعنى أنه لم يعد النموذج الأمريكى مثلا هو الأفضل، ولم تعد الاشتراكية كما هى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى.

لقد أصبح العثور على الشيوعيين فى كثير من دول العالم يحتاج أن تذهب إلى المتحف، لتراهم هناك نتيجة اندثارهم، فى حين أن الشيوعية فى الصين أخذت منحى مختلفا يزاوج بين الشيوعية والرأسمالية، وعلى الجانب الآخر فقد نجحت روسيا فى إقامة نموذجها السياسى المختلف.

كل هذا يدعو الأحزاب والقوى السياسية المشاركة فى الحوار الوطنى إلى الانفتاح التام خلال مناقشات الحوار دون «التمترس» خلف رؤى أحادية أو تسفيه وتشويه كل الرؤى الأخري، عملا بمبدأ «أخذ كل شىء أو رفض كل شىء»، وهو مبدأ الجماعات المتطرفة والإرهابية التى لا ترى الصواب إلا فى جانبها فقط، فى حين ترى باقى الأطراف الأخرى على خطأ تام.

للأسف الشديد لا تزال هناك بعض القوى السياسية والأشخاص لا يرون الأشياء إلا من خلال «فتحة ضيقة» تماما، ويتمحورون خلفها، وهو ما أدى إلى انتكاس ثورات الربيع العربي، وتحولها إلى خريف ساخن، أسهم فى تدمير العديد من الدول، وضياعها حتى الآن عكس الأهداف التى قامت من أجلها تلك الثورات.

المهم الآن أن تنتهز الأحزاب والقوى السياسية المصرية تلك الفرصة التاريخية من أجل الدفع بالانفتاح السياسى والحريات إلى مستوى يليق بالجمهورية الجديدة، ويحافظ عليها فى آن واحد، بعيدا عن المطالب الفئوية الضيقة أو "العنتريات" الزائفة أو محاولة استدعاء نموذج الفوضى والدمار، وكلها أمور لن يقبلها الشعب تحت أى مسمى مرة أخرى.

Back to Top