إفريقيا بين «الصدمات» الخارجية و«التحديات»الداخلية
إفريقيا بين «الصدمات» الخارجية و«التحديات»الداخلية
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
كانت ثورة 23 يوليو 1952 التى قادها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بمثابة الشرارة الأولى لعصر التحرر الوطنى والأحلام الكبيرة فى الدول الإفريقية، غير أن هذه الأحلام الكبيرة كانت تصطدم بعوائق ضخمة ما بين «التحديات» الداخلية و«الصدمات» الخارجية.
الصدمات الخارجية تنوعت بين مؤامرات «محكمة»، وتدخلات مباشرة وغير مباشرة لكى تظل الدول الإفريقية أسيرة للعبودية والاستغلال من جانب الدول التى استعمرتها طويلا، وكانت ـ ولاتزال ـ تعتبرها ضمن مناطق نفوذها لكى تستمر فى نهب ثرواتها واغتيال أحلامها.
أما التحديات الداخلية فكان البعض منها مرتبطا بالمؤامرات الخارجية، والبعض الآخر مرتبطا بمشكلات متوارثة، وأزمات متلاحقة خاصة فيما يتعلق بعدم الاستقرار وعدم القدرة على إقامة نظم سياسية مستقرة إلى جوار تصاعد موجات الإرهاب والعنف، وبزوغ التيارات المتطرفة التى تعتنق العنف والإرهاب سبيلا لتحقيق أغراضها الخبيثة، مما يسهم فى تعطيل جهود التنمية، وتحركها ببطء لا يتناسب مع الزيادات السكانية المتتالية.
ولأن الاقتصاد مرتبط دائما بالأمن والاستقرار، وكما يقولون رأس المال جبان.. فإن رؤوس الأموال تهرب دائما ــ ولها الحق ــ من مناطق القلاقل والتوترات وعدم الاستقرار إلى المناطق الآمنة والمستقرة.
كل هذا أدى إلى تأخر إفريقيا سنوات طويلة، ورغم أنها القارة الأكثر شبابا وحيوية، فإنها للأسف الشديد القارة الأكثر فقرا، ويكفى أن نعرف أن عدد دول القارة يبلغ 54 دولة من إجمالى عدد دول العالم البالغ عددها 206 دول، أى أن عدد دول القارة يبلغ أكثر من 25% من إجمالى دول العالم، ورغم ذلك فإن مجموعة العشرين الأقوى اقتصاديا فى العالم لا تضم سوى دولة واحدة من القارة الإفريقية.
النصيب العادل للقارة السمراء فى هذه المجموعة يجب ألا يقل عن 25% من عدد الدول العشرين الغنية على مستوى دول العالم بما يعادل 4 دول على الأقل، لكن للأسف الشديد بسبب التحديات الداخلية والصدمات الخارجية لاتزال تعانى معظم الدول الإفريقية من مشكلات اقتصادية حادة، وقد ظهرت هذه المشكلات بوضوح نتيجة ظهور جائحة كورونا، وتلتها الحرب الروسية ـ الأوكرانية التى فاقمت الأوضاع الاقتصادية الإفريقية سوءا.
الرئيس عبدالفتاح السيسى تحدث بوضوح عن مشكلات إفريقيا الاقتصادية خلال الجلسة الافتتاحية للاجتماع الـ 29 للبنك الإفريقى للتصدير والاستيراد يوم الخميس الماضى فى العاصمة الإدارية الجديدة، مشيرا إلى ضرورة مواجهة التحديات الداخلية فى إفريقيا خاصة ما يتعلق بالأمن والاستقرار من أجل جذب الاستثمارات إلى القارة الإفريقية حتى تتبوأ دول القارة مكانتها، وتأخذ القارة نصيبها العادل ضمن الدول الأكبر فى اقتصادات العالم.
طالب الرئيس بضرورة تغيير وجه القارة الإفريقية وتحقيق طموحات شعوبها فى التكامل الاقتصادى من خلال توفير بنية تحتية من طرق وكهرباء ومشروعات مختلفة لتسهيل حرية الحركة والانتقال للأفراد ورءوس الأموال.
الرئيس أشار إلى أن مساحة القارة الإفريقية تبلغ نحو 30 مليون كيلومتر مربع، وأن بعض الدول تمتلك نحو 200 مليون فدان قابلة للزراعة، وأن إفريقيا يمكن أن تكون مخزنا للحبوب والسلع الغذائية فى العالم، لكنها تحتاج إلى بنية أساسية قارية متكاملة وقوية من أجل الربط بين دول القارة بالطيران، والسكك الحديدية، والخطوط البحرية، وإتاحة حرية الانتقال للأفراد ورؤوس الأموال.
قارن الرئيس بين الإمكانات الهائلة للزراعة فى القارة الإفريقية، وبين إمكانات أوكرانيا التى نجحت فى زراعة مساحات ضخمة، مما جعلها قادرة على انتاج نحو 60 مليون طن قمح سنويا.
أعتقد أن توقيت اجتماع البنك الإفريقى للتصدير والاستيراد يمكن أن يكون مناسبة مهمة للدول الإفريقية لإعادة النظر فى أشياء كثيرة، خاصة ما يتعلق بالأمن الغذائى لدول القارة، والتكامل الاقتصادى فيما بينهم.
المهم الآن العمل على تحقيق الأحلام المؤجلة منذ أكثر من 70 عاما وبالتحديد منذ بداية الخمسينيات حينما بدأت موجات ثورات التحرر الإفريقى، خاصة أن إفريقيا اليوم ليست مثل إفريقيا الأمس، فالدول الإفريقية جميعها مستقلة، ولها قياداتها الوطنية، وتحولت منظمة الوحدة الإفريقية التى تأسست عام 1963 إلى الاتحاد الإفريقى ليصبح بديلا لمنظمة الوحدة الإفريقية اعتبارا من عام 2002 أى منذ 20 عاما، وأصبح يضم فى عضويته جميع الدول الإفريقية بلا استثناء.
ولد حلم الاتحاد الإفريقى على غرار الاتحاد الأوروبى، وكان ولايزال الأمل يحدو الجميع فى أن يتحول الاتحاد الإفريقى إلى كيان يماثل الاتحاد الأوروبى بما يكفله من حرية الحركة، والتنقل، للأفراد ورؤوس الأموال، ويضمن التكامل الاقتصادى والسياسى بين دول القارة السمراء، مما يتيح لها استغلال امكاناتها، أفضل استغلال ممكن فى مختلف المجالات.
فى عام 2019 وأثناء رئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسى للاتحاد الإفريقى حدث أهم وأخطر تطور اقتصادى فى إفريقيا حينما تم تدشين اتفاقية التجارة الحرة القارية فى القمة الاستثنائية بالنيجر، وبلغ عدد الدول التى وقعت على الاتفاقية 54 دولة وأقرت برلمانات 27 دولة الاتفاقية لتدخل إلى حيز التنفيذ.
إفريقيا الآن تملك أكبر منطقة تجارة حرة على مستوى العالم بما تضمه من أكثر من مليار و200 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم ليصبح 2 مليار و500 مليون نسمة بحلول 2050.
إمكانات إفريقيا تجعلها أكبر مزرعة لإنتاج الغذاء فى العالم بما تملكه من أراض شاسعة صالحة للزراعة، وموارد مائية هائلة غير مستغلة، لكن الأمر يحتاج إلى رؤية موحدة وعاجلة لتوفير الإمكانات اللازمة لذلك خاصة فيما يتعلق بالبنية الأساسية من طرق، وكهرباء، وخطوط سكك حديدية، ونقل بحرى وبرى.
من الغريب أن تملك إفريقيا كل هذه الإمكانات وتقع فريسة للجوع بسبب الحرب الروسية/الأوكرانية مما دعا رئيس الاتحاد الإفريقى ماك سال لزيارة روسيا ولقاء الرئيس بوتين، ومناقشة أزمة الغذاء فى الدول الإفريقية بعد وقف صادرات الحبوب من أوكرانيا.
لو أن الاتحاد الإفريقى نجح منذ تأسيسه ـ أى منذ 20 عاما ـ فى إقامة التكامل الاقتصادى بين الدول الأعضاء فيه لما وصل الحال إلى ما هو عليه الآن من نقص خطير فى الإمدادات الغذائية، ولكانت إفريقيا هى البديل لأوكرانيا وروسيا معا، وأصبحت سلة غداء العالم.
البكاء على اللبن المسكوب لن يفيد، لكن من المهم سرعة التحرك الآن لاستغلال الإمكانات المتاحة للدول الإفريقية فى الزراعة وغيرها من المجالات، ولن يحدث ذلك إلا بضرورة العمل على توفير البنية الأساسية اللازمة لذلك.
مصر لديها تجربة ملهمة فى هذا الإطار حيث نجحت خلال الثمانى سنوات الماضية فى إقامة أضخم مشروعات البنية التحتية التى كانت تحتاجها الدولة المصرية وبلغت تكلفتها مبلغا يتراوح بين 400 و 500 مليار دولار.
هذه المشروعات استهدفت مضاعفة مساحة المعمور فى الدولة المصرية لتتضاعف النسبة من 7 إلى 14% من خلال إقامة أكثر من 14 مدينة جديدة، بالإضافة إلى عاصمة إدارية جديدة، إلى جوار البدء فى استصلاح واستزراع ما يقرب من 4 ملايين فدان لتأمين احتياجات الشعب المصرى من السلع الغذائية.
لفت الرئيس انتباه الحاضرين لاجتماعات بنك التصدير والاستيراد الإفريقى إلى أن تكلفة تحويل مليون فدان فقط إلى أراض قابلة للزراعة وصلت إلى 200 مليار جنيه.
معنى ذلك أن تكلفة الـ4 ملايين فدان المتوقعة تصل إلى ما يقرب من 800 مليار، وهى تكلفة باهظة لكنها تتضاءل أمام ضرورة توفير الاحتياجات الغذائية للشعب المصرى بعيداً عن التقلبات العالمية والأزمات الخارجية، ولأنه ليس هناك خيار آخر بديل إلا الوقوع تحت وطأة الصدمات الخارجية فى كل مرة تتكرر فيها مثل هذه الأحداث.
ربما يكون الوضع فى مجال الاستصلاح والاستزراع فى بعض دول القارة مختلفاً لأن هذه الدول تمتلك أراضى شاسعة قابلة للزراعة، وتمتلك أيضاً موارد مائية هائلة، لكن الأمر يتطلب إرادة سياسية من هذه الدول، ورؤية واضحة من الاتحاد الإفريقى بشأن مستقبل التكامل الاقتصادى فى ضوء تحقيق أجندة التنمية 2063 التى تستهدف تحقيق التكامل الإفريقى، وإزالة جميع العوائق التى تعترض حركة التجارة وحرية التنقل بين الأشخاص فى دول القارة.
أتمنى أن تكون أزمتا كورونا، والحرب الروسية ـ الأوكرانية دافعتين لتحقيق طموحات شعوب القارة الإفريقية فى التنمية والتقدم، واستلهام التجربة المصرية فى البنية الأساسية، كى يصبح التكامل الاقتصادى الإفريقى قابلاً للتنفيذ، وتتاح حرية الحركة والتنقل للأفراد ورؤوس الأموال بين كل الدول الإفريقية لتتمكن القارة الأكثر شباباً من مواجهة جميع التحديات الداخلية والخارجية على السواء، وتحصل على مكانتها اللائقة فى قائمة أكبر الاقتصادات العالمية.