قمة «تصحيح المسار» مع الصديق الأمريكى

قمة «تصحيح المسار» مع الصديق الأمريكى

بقلم ــ ‬عبدالمحسن‭ ‬سلامة

بعد طول جفاء، راجع الرئيس الأمريكى، جو بايدن، موقفه من المنطقة العربية، وعاد فى محاولة لتصحيح مسار سياسته خلال الفترة الماضية، التى رفع فيها شعارات «معادية» تارة، وأخرى مغلفة بالصمت والتجاهل تارة أخرى.

جاء «بايدن» إلى المنطقة معترفا بأهميتها وحيويتها ليس فى مجال الطاقة فقط، لكن أيضا فى أهميتها الإستراتيجية العالمية، وقدرتها على القيام بدور مؤثر وفعال فى التوازن العالمى، بعد أن تغيرت قواعد «اللعبة الدولية»، وانتهى عصر القطب الدولى الواحد، وظهرت بوادر قوية لعصر الأقطاب المتعددة (الغرب، وروسيا، والصين).

أراد الرئيس الأمريكى أن تعود الولايات المتحدة إلى المنطقة بعد أن غابت عنها طويلا، خاصة فى ظل وجود تراكمات طويلة من العلاقات الإستراتيجية بينها وبين العديد من الدول العربية القوية والمؤثرة، التى تبلورت فى اجتماع القمة الأمريكية ــ العربية أمس فى المملكة العربية السعودية، وحضرها قادة مصر والأردن والعراق، ودول مجلس التعاون الخليجى، مع الرئيس الأمريكى جو بايدن.

ربما كان وزير الخارجية الأمريكية السابق، مايك بومبيو، هو أكثر المسئولين الأمريكيين جرأة حينما حضر إلى القاهرة فى بداية 2019، وألقى محاضرة مهمة فى الجامعة الأمريكية، اعترف فيها بالخطأ الذى وقعت فيه الإدارات الأمريكية السابقة تجاه ما حدث بالمنطقة، وأن القادة الأمريكيين أخطأوا فى قراءة التاريخ، والحكم على أحداث المنطقة، مما كانت له تأثيرات سلبية كبيرة ومتعددة.

للأسف جاء «بايدن» وكرر الأخطاء التاريخية نفسها التى اعترف بها مايك بومبيو قبل ذلك، إلا أن وقوع الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وبزوغ أزمة الطاقة العالمية من جديد، والأهم ظهور أقطاب متعددة وقوية فى معادلة السياسة الدولية، أجبر الإدارة الأمريكية على إعادة «حساباتها» مرة أخرى، والعودة إلى المنطقة بقوة، فى محاولة لإحياء العلاقات الإستراتيجية القديمة والمتجددة ومد جسور التعاون والتفاهم، وتصحيح مسار العلاقات التى أصيبت «بالتجمد» و«الفتور» والدفع بها مرة أخرى إلى مستوى العلاقات الإستراتيجية فى مختلف المجالات.

الأمر المؤكد أن العلاقات الإستراتيجية العربية ــ الأمريكية مهمة للطرفين، لأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت ولا تزال هى القوة الأكبر والأضخم عسكريا واقتصاديا على مستوى العالم، ومن الخطأ تجاهلها أو عدم تقدير مكانتها العالمية. لكن على الجانب المقابل، فإنه من الخطأ الدفع بالأوراق كلها فى خانة الصديق الأمريكى، خاصة أن التجارب كلها أكدت عدم حيادية أمريكا، وانحيازها إلى الجانب الإسرائيلى طيلة الوقت فى قضية الصراع العربى ـ الإسرائيلى باستثناءات قليلة، كما حدث فى عهد الرئيس الأسبق جيمى كارتر.

ترامب، على سبيل المثال، كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين انحيازا إلى إسرائيل، لكنه فى المقابل كان يرفض التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية، ويرفض منطق الوصاية عليها.

فى المقابل، فإن «بايدن» منذ ولايته كان يحاول التدخل، وفرض الوصاية على الشئون الداخلية للدول العربية، وفشلت كل محاولاته، مما أصاب العلاقات العربية ـ الأمريكية بالفتور. وعلى الجانب الآخر، كان «بايدن» أقل انحيازا من سلفه ترامب إلى إسرائيل، لكنه فى الوقت نفسه وقع، الخميس الماضى، على «وثيقة القدس"، لإعلان الشراكة الإستراتيجية بين أمريكا وإسرائيل.

الوثيقة كلها انحياز إلى إسرائيل، لأنها أكدت التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على تفوق إسرائيل العسكرى النوعى، والحفاظ على قدرتها على ردع أعدائها بحسب الوثيقة.

صحيح أن «بايدن» ذهب فى اليوم التالى (أمس الأول الجمعة) إلى «بيت لحم»، والتقى الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، فى زيارة تعبر عن مدى اهتمامه بالسلام، مؤكدا من هناك التزامه بحل الدولتين، ومعتبرا ذلك الطريق الأفضل لتحقيق قدر متساو من الأمن والازدهار والحرية والديمقراطية للفلسطينيين والإسرائيليين.

بايدن استطرد، قائلا: أعلم أن هدف حل الدولتين قد يبدو بعيد المنال جراء وجود قيود على التحرك أو السفر أو القلق اليومى على أمن الأطفال الفلسطينيين.

تطور مهم فى لغة خطاب الرئيس الأمريكى «بايدن» عن لغة خطاب سلفه «ترامب»، لكن كل ذلك لا يعدو سوى تغيير فى الكلمات أو الألفاظ دون وجود ضغط فعلى على المتسبب فى تعطيل عملية السلام وإدانته، أو على الأقل القيام بكل ما يلزم من أجل تحريك عملية السلام، وإنهاء حالة عدم الاستقرار فى المنطقة بسبب التعنت الإسرائيلى، ورفضهم السلام، وتمسكهم بالسياسات المناهضة للسلام، مثل إقامة المستوطنات، والتضييق على الفلسطينيين، ورفضهم مقررات الشرعية الدولية.

أمريكا تعلم علم اليقين أن إسرائيل هى التى ترفض السلام، وأن العالم العربى كله يقبل بالسلام منذ أن توافقت الدول العربية على المبادرة العربية لإحلال السلام، وإقرار مبدأ «الأرض مقابل السلام»، وإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى 1967، بما فيها القدس الشرقية، وكذلك إنهاء الاحتلال الإسرائيلى لكل الأراضى العربية المحتلة فى 1967، بما فيها الجولان السورية.

لاتزال المشكلة تكمن فى الانحياز الأمريكى «الفج» لـ«إسرائيل»، وهو ما دعا الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، إلى مطالبة الرئيس الأمريكى، جو بايدن، بضرورة اتخاذ الخطوات اللازمة من جانب الإدارة الأمريكية، لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى لأراضى الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو 1967.

أعتقد أنه من المهم أن تعيد الولايات المتحدة النظر فى سياستها تجاه المنطقة العربية بعد قمة الأمس وخلال المرحلة المقبلة إذا كانت جادة فى إعادة العلاقات الإستراتيجية العربية ــ الأمريكية إلى مكانتها اللائقة، فى ضوء الملاحظات التالية:

أولا: هناك حالة من التنسيق بين الدول العربية المشاركة فى القمة العربية ــ الأمريكية ــ وهو ما ظهر بوضوح فى كلمات القادة والزعماء العرب المشاركين فى اجتماع الأمس ــ حيث سبق تلك القمة انعقاد سلسلة من المشاورات واللقاءات بين زعماء الدول المشاركة خلال الفترة الماضية من أجل تنسيق المواقف، وتوحيد الرؤى تجاه الأزمات والأحداث الإقليمية والعالمية.

ثانيا: أن تعيد إدارة بايدن النظر فى مفهومها للعلاقات مع الدول العربية، والتخلى عن مفهوم «عصر الوصاية»، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية، خاصة بعد أن تسببت الولايات المتحدة فى وقوع تأثيرات سلبية خطيرة على حياة الملايين من الشعوب العربية فى العراق وسوريا وليبيا نتيجة تدخلها فى شئون هذه الدول.

هذه التجارب السلبية لسياسة التدخل فى الشئون الداخلية لبعض الدول العربية يجب أن تنتهى تماما، وأن تعود العلاقات إلى علاقات حوار ومشاركة، بعيدا عن الإملاءات غير المقبولة.

ثالثا: يجب أن تعى الولايات المتحدة الأمريكية أن العالم العربى لن يقبل أن يكون طرفا فى صراع ضد طرف ثالث، بما لا يخدم المصالح العربية العليا، خاصة ما يتعلق بالرؤية الإسرائيلية فى هذا المجال.

رابعا: إذا رغبت الولايات المتحدة فى دمج حقيقى للدولة العبرية فى المنطقة، فلن يكون ذلك بمنطق «اتفاقية إبراهيم»، وغيرها من الاتفاقيات، وإنما هو طريق واحد ولا بديل عنه، وهو إقامة السلام العادل والشامل.

الدول العربية أقرت مبدأ السلام مع إسرائيل منذ 20 عاما، وبالتحديد بعد أن تم إطلاق المبادرة العربية للسلام، التى أطلقها الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، فى 2002، وأقرها مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة فى دورته الرابعة عشرة.

المبادرة تقوم على مبدأ «الأرض مقابل السلام»، وإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود 1967 ــ وهو ما تحدث به وأكد عليه الرئيس الأمريكى فى بيت لحم مع الرئيس الفلسطينى ــ بالإضافة إلى انسحاب إسرائيل من هضبة الجولان مقابل اعتراف الدول العربية بإسرائيل، وتطبيع العلاقات معها.

معنى ذلك أن السلام خيار إستراتيجى عربى، والدمج الإسرائيلى فى المنطقة لن يتم من خلال مبادرات فردية، وإنما يتحقق فقط بخطوات إسرائيلية جادة وحقيقية فى اتجاه السلام، وتنفيذ المبادرة العربية التى تم إطلاقها فى عام 2002.

عشرون عاما وإسرائيل ترفض السلام الحقيقى والشامل، وتحاول القفز على ذلك بمبادرات فردية لن تغير كثيرا من قناعات الشعوب العربية برفض دمج الكيان الإسرائيلى إلا فى حالة واحدة فقط، وهى القبول بالسلام، والدخول فى مفاوضات جادة وحقيقية مع الجانب الفلسطينى، للوصول إلى السلام العادل والشامل الذى يحقق الأمن والسلام لجميع الأطراف.

خامسا: ضرورة قيام الجانب الأمريكى بدور جاد وحاسم فيما يتعلق بقضية السد الإثيوبى، الذى يؤثر بالسلب على حياة الشعبين المصرى والسودانى، وأن تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية موقفا واضحا وحازما بضرورة التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم يحقق مصالح الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا)، بعيدا عن السياسة الإثيوبية الأحادية التى تحاول فرض «أمر واقع» يمكن أن يهدد استقرار المنطقة مستقبلا، ويشعل الصراع فى منطقة حوض وادى النيل.

سادسا: أن تقوم الولايات المتحدة بمساندة حقيقية وجادة للدول العربية فى مكافحتها الإرهاب، ودعم الإستراتيجية المصرية فى هذا المجال، التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ توليه مسئولية السلطة فى مصر، وأثبتت الأحداث مصداقية هذه الإستراتيجية، وفعاليتها فى الحفاظ على كيانات الدول الوطنية من الانهيار، على أن يتضمن ذلك مساندة الرؤية العربية فى إنقاذ ليبيا وسوريا واليمن، لتعود هذه الدول قوية وموحدة كما كانت قبل انهيارها من أكثر من ١٠ سنوات حتى الآن.

أخيرا، فإنه من المهم أن تعى الولايات المتحدة الأمريكية أهمية المنطقة العربية الإستراتيجية كأحد أهم مصادر الطاقة فى العالم، وبالتالى فإن استقرارها ونموها ضرورة للاستقرار العالمى، وعدم تعرضه لموجات عنيفة من الاهتزازات كما يحدث الآن نتيجة الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وكما حدث من قبل فى أثناء اندلاع حرب السادس من أكتوبر 1973 نتيجة الانحياز الأمريكى «الأعمى» لإسرائيل على حساب الحقوق العربية المشروعة.

أتمنى أن تكون القمة العربية - الأمريكية هى بداية لصفحة تصحيح المسار فى العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربى، قوامها العدالة، والشرعية، وتفهم الحقوق العربية المشروعة، وفى الوقت نفسه انتهاء فكرة الوصاية، والإملاءات التى انتهى عصرها، وولى زمانها، ولم تعد مقبولة فى إطار خريطة عالمية جديدة تتشكل بسرعة شديدة، لتصبح أمرا واقعا خلال السنوات القليلة المقبلة.

Back to Top