رؤى وأفكار اقتصادية للنقاش فى الحوار الوطنى
رؤى وأفكار اقتصادية للنقاش فى الحوار الوطنى
طرحت، فى الأسبوع الماضى، قضية «المحليات» ضمن القضايا التى يجب التركيز عليها على مائدة الحوار الوطنى، بوصفها مدرسة مبكرة لخلق أجيال جديدة من السياسيين المتمرسين على أرض الواقع العملى فى كل أرجاء الدولة المصرية، ودورها الأساسى فى إعطاء قوة دفع إضافية للعمل فى المحافظات، فى إطار دقيق ومتوازن بين إعطاء مزيد من الصلاحيات للمحافظين، وفى الوقت نفسه توسيع نطاق ورقابة المجالس المحلية.
محور المحليات من المحاور المهمة والضرورية، لأنه يشكل القوة السياسية الصلبة للدولة المصرية، ويكفى أنه يصل إلى كل أعماق القرى والمدن والنجوع المصرية التى يعيش فيها ما يقرب من ٧٥% من المصريين، بالإضافة إلى أنه يشمل أيضا باقى المصريين فى العاصمة وضواحيها، والمدن الكبرى.
أتصور ضرورة مناقشة مشروع قانون «الإدارة المحلية» المقترح، ووضع التوصيات اللازمة لتطويره، سواء فيما يخص الجانب التنفيذى (الإدارة المحلية) أو فيما يخص الجانب الشعبى والرقابى (المجالس الشعبية المحلية)، ولا تقل أهمية عن ذلك المطالبة بسرعة إصدار هذا القانون فى أسرع وقت ممكن خلال الدورة التشريعية المقبلة، لكى تدور عجلة الانتخابات المحلية، ومعها يتطور الأداء فى الإدارة المحلية بمزيد من الصلاحيات المحكومة بسلطات رقابية شعبية جادة وقوية.
إلى جوار قضية المحليات تبرز قضايا المحور الاقتصادى، ذلك المحور الحيوى والمهم الذى يعمل على بلورة رؤية اقتصادية شاملة لمستقبل الأوضاع الاقتصادية فى مصر خلال المرحلة المقبلة.
أعتقد أن وثيقة «سياسة ملكية الدولة»، التى أعلنتها الحكومة المصرية، برئاسة د. مصطفى مدبولى، فى يونيو الماضى، تصلح لأن تكون أساسا قويا للنقاش العام والحوار حولها من أجل وضع رؤية إستراتيجية متكاملة للاقتصاد المصرى خلال المرحلة المقبلة.
أهمية الوثيقة أنها تضع حدا للجدل الذى يحدث أحيانا بين مؤيدى ملكية الدولة، وبين مؤيدى فكرة القطاع الخاص.
الوثيقة أوضحت أن الوجود فى النشاط الاقتصادى ليس هدفا فى حد ذاته، وإنما يستهدف تحقيق أهداف وغايات اجتماعية وإستراتيجية واقتصادية إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك، وأن هذا التدخل ينتهى بتحقيق تلك الأهداف، وزوال الدوافع من ورائها.
فسرت الوثيقة، بما لا يدع مجالا للشك أو «اللبس»، أهمية تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى عقب 2013، لمواجهة تحديات انخفاض معدل نمو الناتج المحلى، وتراجع مصادر النقد الأجنبى، بالإضافة إلى ارتفاع عجز ميزان المدفوعات بمعدلات غير مسبوقة منذ 30 عاما، وارتفاع معدلات البطالة، وتدهور المستوى المعيشى للأفراد.
لكل هذا كان لا بد من تدخل الدولة، لمواجهة تلك التحديات، وتصحيح المسار الاقتصادى من خلال ضخ استثمارات حكومية داعمة للنشاط الاقتصادى فى قطاعات: البنية التحتية، والنقل، والتعليم، والصحة، وهى المشروعات التى يعزف القطاع الخاص عن الدخول فيها، خاصة ما يتعلق بمشروعات البنية التحتية، من مياه، وصرف صحى، وكهرباء، وطرق، ونقل.
كان لتدخل الدولة فى هذا التوقيت انعكاس إيجابى وقوى على مستوى النشاط الاقتصادى الكلى، وتحسين معيشة المواطنين، وتطوير بيئة ممارسة الأعمال.
أسهم ذلك أيضا فى تحسن تصنيف مصر الاقتصادى فى العديد من المؤشرات الدولية، ومن ثم تحسن البيئة الاستثمارية، وجعلها أكثر جاذبية للاستثمارات الأجنبية خلال الفترة الماضية.
بعد أن تحققت الأهداف التى وضعتها الدولة المصرية لتخطى الأزمات القاتلة التى أعقبت قيام ثورتين فى مدة لم تتجاوز ثلاثة أعوام، وكلفت الاقتصاد المصرى خسائر تجاوزت أكثر من 440 مليار دولار، كان لا بد من الانتقال إلى مرحلة اقتصادية جديدة، قوامها التحول نحو دور جديد للدولة، يسعى إلى تعزيز دور القطاع الخاص فى النشاط الاقتصادى، وإيجاد البيئة الاقتصادية الداعمة والجاذبة للاستثمارات فى إطار خطة مدروسة ومتدرجة.
الوثيقة جاءت واضحة وشاملة، وهى لا تستهدف تخارجا عشوائيا وسريعا للدولة من ملكية الأصول الإنتاجية، لأنها تميز بين 3 نوعيات: الأولى تخارج كامل من بعض الأنشطة، والثانية تخارج محدود من أنشطة أخرى، والثالثة احتمال تزايد وجود الدولة فى بعض الأنشطة التى تقرر البقاء فيها.
ميزة هذه الوثيقة أنها تجنبت الأخطاء القاتلة التى حدثت قبل ذلك، وبالتحديد منذ ما يقرب من 4 عقود، حينما كان هناك خروج عشوائى للدولة من بعض القطاعات بشكل غير مدروس، فكان الخروج فى ذلك الوقت أقرب إلى التصفية منه إلى التخارج المدروس، الذى يحافظ على استمرارية هذه القطاعات فى الإنتاج.
هناك فرق ضخم بين التخارج من بعض القطاعات، وتصفية هذه القطاعات، حتى لو كان ذلك من خلال طرحها للبيع للقطاع الخاص.
التخارج ـ فى تصورى ـ يعنى تعظيم قيمة هذه القطاعات، وتنميتها، وطرحها للمشاركة أو البيع للقطاع الخاص، سواء بشكل مباشر (بيع مباشر) أو طرحها فى البورصة.
المهم فى كل الأحوال الحفاظ على دور وإنتاجية تلك المشروعات وتنميتها، وليس تصفيتها كما حدث قبل ذلك، حيث تحول الأمر حينذاك إلى تصفية المنشآت، وبيعها كقطع أراض، وبيع الماكينات خردة، وبشكل عشوائى.
الآن تغير الوضع، وأكدت الوثيقة أن الهدف هو تشجيع القطاع الخاص، استنادا إلى تجارب دولية ناجحة، والاستفادة من دروس الأزمات العالمية التى حدثت خلال الفترة الماضية، خاصة جائحة «كورونا»، والحرب الروسية ـ الأوكرانية.
تستهدف الحكومة رفع معدل الاستثمار إلى ما يتراوح بين 25 و30٪، بما يسهم فى زيادة معدل النمو الاقتصادى إلى ما بين 7 و9٪ من أجل توفير فرص عمل كافية، وخفض معدلات البطالة خلال المرحلة المقبلة.
الوثيقة تستحق أن تكون أساسا قويا للنقاش داخل المحور الاقتصادى للحوار الوطنى من أجل الإضافة إليها، أو تعديلها، بما يسهم فى تحقيق الأهداف الرئيسية لها التى تتواكب مع المعايير العالمية.
لابد من التحلى بأقصى قدر من المرونة والفهم فى أثناء مناقشة وثيقة «سياسة ملكية الدولة»، فلم تعد هناك اشتراكية مطلقة أو رأسمالية مطلقة، وكل التجارب العالمية فى الدول الاشتراكية أو الرأسمالية «الصين وأمريكا» تؤكد ذلك، فهناك قطاعات وأوقات من المهم أن تتواجد فيها الدولة، وبقوة فى مجالات بعينها، وهناك قطاعات وأوقات أخرى تكون فيها الأولوية للقطاع الخاص، والاستثمارات المحلية والأجنبية على السواء.
ليس هناك مستثمر أجنبى يحمل مشروعه على ظهره، ويخرج به إلى خارج الدولة، فالمشروعات تظل باقية حتى لو خرج هذا المستثمر أو ذلك، ومن ثم يجب إتاحة الفرصة كاملة للاستثمار المحلى والأجنبى فى قطاعات معينة، وفى الوقت ذاته قد يقتضى الأمر بقاء الدولة وبقوة فى قطاعات أخرى، خاصة تلك التى يهجرها القطاع الخاص، أو على الأقل لا يفضل الاستثمار فيها.
الأزمات العالمية خلال السنوات الثلاث الماضية «كورونا والحرب الروسية ــ الأوكرانية» أكدت ذلك، فالمهم أن تكون هناك ثورة إنتاجية (زراعية ــ صناعية) بغض النظر عن نوع ملكيتها (عام أو خاص)، والمهم أن يكون هناك إنتاج محلى عالى الجودة، وبأسعار معقولة، لمواجهة الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
الحوار حول وثيقة «سياسة ملكية الدولة» سيسهم فى تطبيقها على أفضل ما يكون، من حيث السرعة أو التنفيذ، وتجنب كل الأخطاء السابقة التى حدثت قبل عدة عقود، ووضع رؤية إستراتيجية للمراحل المستقبلية تراعى التوازن بين القطاعات المملوكة للدولة أو القطاعات التى ينبغى التوسع فيها، للشراكة مع القطاع الخاص أو تلك التى يجب تركها للقطاع الخاص بشكل كامل.
المهم تحقيق الأهداف الإستراتيجية لنمو اقتصادى مستدام، بما يحقق فى النهاية التزام الدولة، وفقا للمادة «27» من الدستور، بتحقيق الرخاء فى البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وبما يكفل رفع معدل النمو الحقيقى للاقتصاد القومى، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل، وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر.