خارطة طريق لمستقبل التعليم الجامعى
يشهد التعليم الجامعى ثورة متكاملة غير مسبوقة الآن حيث أصبحنا نقترب من حلم جامعة لكل مليون مواطن، وهو الحلم الذى كان بعيد المنال، وأصبح الآن حقيقة على أرض الواقع.
فى مصر الآن 27 جامعة حكومية، و25 جامعة خاصة، و21 جامعة أهلية، ومن هذه الأرقام يتضح أن هناك نحو 73 جامعة موجودة الآن فعليا، هذا إلى جانب عدد آخر فى الطريق.
بحسبة بسيطة فإن عدد السكان فى مصر نحو 105 ملايين، فإذا استبعدنا أرقام وأعداد الأمية وهى نسبة مختلف عليها لكنها تتراوح بين 25 و30% تقريبا، فإننا نجد أن عدد الجامعات فى مصر أصبح كافيا بل إنه يستوعب أعدادا أكبر من المتاح فى سوق التعليم الجامعى، مما يتيح الفرصة أمام جذب أعداد أكبر من الوافدين من الدول العربية والإفريقية، ويجعل التعليم مصدرا مهما من مصادر العملة الصعبة مستقبلا.
بلغ عدد طلاب الثانوية العامة هذا العام نحو 650 ألف طالب وطالبة لجميع الشعب تقريبا، وهى الأعداد التى تتأهب الآن للالتحاق بالتعليم الجامعى، وتحتاج إلى مكان لها فى الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة.لفترة طويلة وممتدة على مدى أكثر من 3 عقود فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات كانت الجامعات المصرية على رأس القائمة فى التعليم الجامعى عربيا وإفريقيا وإسلاميا، وتخرج فيها قادة، وزعماء، وسياسيون، وأكاديميون أفذاذ من مصر، والعالم العربى وإفريقيا بل وفى العالم الإسلامى كله.
جامعة الأزهر هى أقدم وأعرق الجامعات المصرية على الإطلاق، وهى الأقدم والأعرق فى العالم العربى وإفريقيا، وتخرج فيها العديد من القيادات والرموز، أبرزهم هوارى بومدين الرئيس الجزائرى الأسبق، ومحمد فؤاد معصوم رئيس العراق الأسبق، ومأمون عبدالقيوم رئيس جزر المالديف الأسبق إلى جوار العديد من الشخصيات المتميزة فى المجالات المختلفة فى العديد من دول العالم.
بعد جامعة الأزهر تأتى جامعة القاهرة وهى الجامعة المدنية الأقدم فى العالم العربى وإفريقيا، ومن أبرز خريجيها الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، والرئيس العراقى الراحل صدام حسين، وحاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمى، إلى جوار العديد من الرموز الفكرية والأدبية والعلمية والثقافية التى أضاءت سماء الإنسانية فى مصر والعالم.
للأسف الشديد تراجعت الجامعات المصرية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضى والخمسة عشر عاما الأولى من القرن الحالى بسبب الزيادة السكانية الكبيرة، وعدم مواكبة التعليم الجامعى «كما وكيفا» لهذه الزيادة، مما أثر بالسلب على نسب الالتحاق بالتعليم الجامعى مقارنة بالنسب العالمية.
منذ عام 2015 تغير الوضع بشدة وبدأ مشروع قومى ضخم للتوسع فى الجامعات. حيث بلغ عدد الطلاب فى التعليم الجامعى عام 2015 نحو 2٫7مليون طالب، ثم ارتفع الرقم عام 2020 إلى 3٫1 مليون طالب بعد أن تم توفير 300 ألف مكان إضافى فى الجامعات ومن المقرر ان ترتفع الأعداد عام 2030 إلى 4٫1 مليون طالب تقريبا بزيادة 2 مليون طالب تقريبا على عام 2015.
معنى ذلك أنه ستتم مضاعفة أعداد الملتحقين بالتعليم الجامعى بنسبة 100% تقريبا بعد إضافة نحو مليونى مكان جديد فى الجامعات فى الفترة من 2015 إلى 2030.
ارتفاع الطلب على التعليم الجامعى طبيعى محليا وعالميا لأنه مرتبط بزيادة الوعى العام بأهمية التعليم، ودوره الحيوى فى التطور، والتنمية، وتحسين مستويات الدخل، والقدرة على مواكبة التطور العلمى والتكنولوجى السريع فى مختلف المجالات.
من هنا فإن مؤشر أعداد الجامعات ضرورى ومهم، ولكن لا يقل أهمية عنه ضرورة الاهتمام بجودة التعليم الجامعى، وهو ما يحتاج إلى جهود حثيثة وسنوات طويلة، وتكاتف بين القطاعين الحكومى والخاص من أجل مزيد من الإنفاق على جودة التعليم الجامعى، والبحث العلمى.
للأسف الشديد كشفت الأزمة الروسية ــ الأوكرانية عن وجود أعداد ليست بالقليلة من الطلاب المصريين الذين سافروا إلى الدولتين للدراسة فى الجامعات الروسية والأوكرانية حيث يوجد فى روسيا نحو 23 ألف طالب فى حين عاد من أوكرانيا ما يقرب من 7 آلاف طالب.
إلى جانب هؤلاء هناك أعداد غير معلومة بدقة من الطلاب المصريين يدرسون فى جامعات الأردن والسودان وبعض الدول الأخرى مثل رومانيا والتشيك وغيرهما.
الخيط الرابط بين كل هؤلاء الطلاب الذين سافروا إلى روسيا، وأوكرانيا، والأردن، والسودان، وغيرها هو الهروب من الحد الأدنى للالتحاق بالتعليم الجامعى فى مصر والذهاب إلى هذه الدول من أجل استكمال تعليمهم الجامعى رغم معاناة الاغتراب وارتفاع تكاليف المعيشة، والمشكلات المتعددة التى تحدث فى هذا الإطار.
منذ العام الماضى، وهذا العام اختفت «نبرة» المجاميع الضخمة التى كانت تتجاوز الـ 100% أحيانا، وعادت «نبرة» المجاميع الطبيعية التى تتراوح حول المعدلات الطبيعية التى كانت سائدة قبل ذلك.
أعتقد أنه لم يكن هناك تنسيق كبير بين وزارتى التعليم والتعليم العالى، بعد أن ألقت وزارة التعليم كرة النار فى قلب وزارة التعليم العالى فجأة لتنتقل الأزمة بسرعة من التعليم إلى التعليم العالى، التى لم تكن «مهيأة» للتعامل مع متغيرات نتيجة الثانوية العامة فى العالم الماضى، والدليل على ذلك وجود أماكن شاغرة كثيرة فى الجامعات الأهلية والخاصة، وفى الوقت نفسه سافرت أعداد كبيرة من الطلبة إلى روسيا وأوكرانيا والأردن والسودان وغيرها لاستكمال تعليمهم الجامعى بسبب ارتفاع الحد الأدنى الذى قررته وزارة التعليم العالى فى العام الماضى للقبول بالتعليم الخاص والأهلى، والذى لم يتماش مع الانخفاض الحاد للمجاميع، بالإضافة إلى تطبيق فكرة تنسيق الجامعات الخاصة، وهو الأمر الذى لا يتسق مع وجود حد أدنى، فالتنسيق يلغى الحد الأدنى، والعكس صحيح، والأفضل ترك الحرية لكل جامعة وشأنها مع تحديد الحد الأدنى المناسب كما كان يحدث فى السنوات السابقة، مع الوضع فى الاعتبار الانخفاض الضخم الذى حدث فى مستوى ومتوسطات المجاميع بما يؤدى فى النهاية إلى توفير مكان لكل طالب فى الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة.
الأمر المؤكد أنه لا تعارض بين الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة، وأنها جميعا فى النهاية تعمل فى إطار الدولة المصرية، بهدف اتاحة التعليم الجامعى لكل المستحقين وبالجودة المطلوبة التى تعيد الجامعات المصرية إلى سابق عهدها كمراكز حضارية فى العالم العربى وإفريقيا.
من هذا المنطلق هناك بعض الملاحظات التى يجب وضعها أمام متخذ القرار، قبل انطلاق ماراثون القبول بالجامعات الخاصة والأهلية وأبرزها مايلى:
أولا: دراسة مستقبل مكتب التنسيق للجامعات الحكومية العامة وهل لايزال له ضرورة لتحقيق تكافؤ الفرص، أم أنه يمكن البحث عن بدائل أخرى مثل الاختبارات الموحدة للقبول بالكليات المتشابهة؟.
ثانيا: إلغاء نظام التنسيق الذى تم تطبيقه فى العام الماضى على الجامعات الخاصة، لأن التنسيق يعنى الالتزام بملء الأماكن الشاغرة، فى كل الكليات، وهو ما لم يحدث فى العام الماضى، وبالتالى يكون هناك تعارض لا معنى له بين تنسيق الجامعات الأهلية والخاصة والحد الأدنى للقبول.
ثالثا: إعادة النظر فى الحد الأدنى للقبول بالجامعات الأهلية والخاصة بما يضمن توفير فرص لكل الراغبين للالتحاق بالتعليم الجامعى بشكل طبيعى.
على سبيل المثال فإن القطاع الطبى مثلا «الطب البشرى، طب الأسنان، العلاج الطبيعى الصيدلة» يحتاج إلى إعادة نظر فى الحد الأدنى والنزول به ليتماشى مع انخفاض مستوى المجاميع.
عدد الأماكن المتاحة فى الجامعات الحكومية للقطاع الطبى «22500 طالب» «المرحلة الأولى» فى حين أن عدد الأماكن المتاحة فى الجامعات الخاصة والاهلية للقطاع الطبى نحو «27 ألف طالب» ولأن التعليم الخاص والأهلى يحتاج إلى تكلفة خاصة لا يقدر عليها كل الطلاب الحاصلين على الحد الأدنى المقرر، وأن نسبة الطلاب القادرين لا تتجاوز «طالب واحد لكل 4 طلاب» فإنه من الضرورى النزول بالحد الأدنى لكليات القطاع الطبى إلى 70% على الأقل لملء الأماكن المتاحة فى الجامعات الأهلية والخاصة، وإلا فإن الجامعات الخاصة والأهلية تتحول إلى استثمارات معطلة، وفى الوقت نفسه يضطر الطلاب القادرون للسفر إلى الخارج لاستكمال دراستهم لعدم القدرة على الالتحاق بالجامعات الأهلية والخاصة.
رابعا: بالنسبة لقطاع كليات الهندسة، فهناك أكثر من حد أدنى، أولها يخص الجامعات الحكومية، والثانى للجامعات الخاصة والأهلية، والثالث للمعاهد العليا التى تعطى درجة البكالوريوس رغم انخفاض مصروفاتها.
لقد أصبح من الضرورى توحيد الحد الأدنى للجامعات الخاصة والأهلية والمعاهد العليا والنزول به إلى 60% على أن يترك للطلاب فرص الاختيار طبقا للجودة والتكلفة بحسب رغبات الطلاب وأولياء الأمور، وحسب ظروف وإمكانات كل طالب على حدة.
خامسا: النزول بالحد الأدنى لكليات القطاع الأدبى إلى 55% حيث أظهرت مؤشرات نتيجة الثانوية العامة انخفاض متوسطات الدرجات لطلاب القسم الأدبى، مما يتطلب النزول بالحد الأدنى لاستيعاب كل الطلاب الراغبين فى الالتحاق بالكليات المتاحة لهذا القطاع.
يؤكد ذلك أن الحد الأدنى للمرحلة الأولى لطلاب القسم الأدبى هو 64٫51% فى حين أن الحد الأدنى لتنسيق المرحلة الأولى فى عام 2020 كان يبلغ نحو 79٫9%.
معنى ذلك أن الطالب الحاصل على 64٫51% أدبى هذا العام يتساوى مع الطالب الحاصل على 79٫9 عام 2020.
لذلك لابد من مراجعة تنسيق الجامعات الخاصة والأهلية للقطاع الأدبى لمراعاة زيادة أعداد الأماكن فى التعليم الجامعى والطفرة غير المسبوقة التى حدثت فى عصر الرئيس عبدالفتاح السيسى، وفى الوقت نفسه زيادة أعداد الطلاب الراغبين فى الالتحاق بالتعليم الجامعى.
سادسا: إلزام الجامعات المنشأة باتفاقيات «الجامعة الأمريكية واليابانية والأكاديمية العربية للنقل البحرى وغيرها» بذات الحد الادنى المقرر للجامعات الأهلية الخاصة، من أجل تحقيق المزيد من تكافؤ الفرص بين كل هذه الأنواع من الجامعات، مع إعطاء الفرصة للطالب للاختيار طبقا لمستويات الجودة والأسعار المتاحة.
تلك هى بعض الملاحظات التى تحتاج إلى مناقشات واسعة ومستفيضة فى إطار العصف الذهنى لتواكب ما حدث من طفرة هائلة وغير مسبوقة فى إنشاء الجامعات الحكومية، والأهلية، والخاصة، والدولية لتعود الجامعات المصرية إلى سابق عهدها فى صدارة الجامعات العربية والإفريقية تستوعب كل الطلاب المصريين وتستقطب أعدادا كبيرة من الطلاب الوافدين العرب والأفارقة والأجانب خلال المرحلة المقبلة.
المهم التعامل بسرعة مع هذه الملاحظات بما يتماشى مع خطة الدولة لإتاحة التعليم الجامعى لكل الراغبين، والاستفادة من الاستثمارات الضخمة التى تم ضخها فى الجامعات الأهلية والخاصة، وفى الوقت نفسه وقف نزيف سفر الطلاب إلى الخارج للحاق بمقعد فى التعليم الجامعى هناك رغم وجود أماكن شاغرة، فى الجامعات المصرية الخاصة والأهلية.