الرؤية الاقتصادية فى تجديد شباب قناة السويس
الرؤية الاقتصادية فى تجديد شباب قناة السويس
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
منذ ١٥٣ عاما تم افتتاح قناة السويس، وتحديدا عام ١٨٦٩ فى عصر الخديوى إسماعيل، بعد أن تم حفرها فى نحو 10 سنوات، بطول 164 كيلو مترا، (أصبح الآن ١٩٣٫٣ كيلو متر) لتصل بين البحرين (المتوسط والأحمر)، وبين قارات العالم المختلفة، خاصة أوروبا، وآسيا، وإفريقيا.
شارك فى حفر القناة ما يقرب من مليون مصرى، مات منهم أكثر من ١٢٠ ألف عامل، نتيجة الجوع، والعطش، ليروى المصريون بدمائهم الذكية قناة السويس قبل أن تنطلق فيها المياه.
نجح ديليسبس (صاحب فكرة حفر القناة) فى إقناع الخديوى محمد سعيد باشا بمنح الشركة الفرنسية ــ التى كان يتولى رئاستها ــ حق امتياز حفر، وتشغيل القناة لمدة ٩٩ عاما، وحينما أوشك حق الامتياز على الانتهاء حاولت الشركة الفرنسية تمديد هذا الحق لمدة ٥٠ عاما إضافية، إلا أن الأوضاع السياسية فى مصر كانت قد تغيرت، حيث انتهى عصر الملكية، وأُعلنت الجمهورية، وكذلك تم التخلص من الاستعمار الإنجليزى، وإعلان الاستقلال.
رفض الرئيس جمال عبدالناصر العرض الفرنسى تمديد حق الامتياز، وأعلن تأميم قناة السويس فى يوليو١٩٥٦.
وقتها، قامت الدنيا ولم تقعد، وتحالف «ثلاثى الشر» حينذاك (فرنسا، وبريطانيا، وإسرائيل) وأعلن الحرب، والعدوان الثلاثى على مصر.
لم يحقق العدوان الثلاثى هدفه، وانتهى الأمر بانسحابه، نتيجة الضغوط الدولية، والمقاومة الشرسة للجنود المصريين، ووقوف الشعب المصرى كله صفا واحدا خلف قواته المسلحة.
هكذا، عادت القناة إلى أصحابها الأصليين، وضرب العاملون فى القناة أروع الأمثلة على قوة الإرادة، والنجاح، حينما أداروا، باقتدار، العمل فى القناة بعد أن كانت الشركة الفرنسية تراهن على فشل المصريين فى إدارتها عقب انسحابها.
استمرت قناة السويس فى أداء عملها بكفاءة، واقتدار، حتى وقع العدوان الإسرائيلى عام ١٩٦٧، الذى أدى إلى إغلاق القناة ٨ سنوات كاملة، حتى قام الرئيس الراحل أنور السادات بافتتاحها فى يونيو ١٩٧٥، بعد انتصار الجيش المصرى على العدوان الإسرائيلى عام ١٩٧٣.
إعادة افتتاح قناة السويس عام ١٩٧٥ كانت تحديا ضخما، نتيجة توقف الحياة تماما فى القناة لمدة ٨ سنوات، مما أدى إلى تحول منشآت إدارة القناة إلى «أماكن مهجورة»، وتَرَاكُمْ الألغام، والقنابل، ومخلفات الحرب فى بطن القناة، وعلى ضِفتيها.
نجح المصريون مرة ثالثة فى التحدى، بعد أن نجحوا أول مرة فى حفر القناة، والمرة الثانية فى تشغيلها عام ١٩٥٦ بعد انسحاب الشركة الفرنسية، ثم كانت المرة الثالثة فى عودة القناة للعمل من جديد بكامل كفاءتها بعد التوقف ٨ سنوات.
نتيجة التطورات المتلاحقة فى النقل البحرى، وظهور أجيال جديدة، وحديثة من الناقلات العملاقة، ودخول هذه الناقلات الخدمة؛ كان لابد من مواجهة التحدى مرة رابعة، وإلا «شاخت» القناة، مثلها فى ذلك مثل غيرها من المشروعات الاقتصادية التى تقف «محلك سر»، ولا تواجه التحديات.
التحدى، هذه المرة، كان يرتبط بتداعيات كثيرة، أبرزها ظهور «قنوات» بحرية ملاحية تحاول منافسة القناة، مما جعل بعض الدول تفكر سرا، وجهرا فى إيجاد بدائل لقناة السويس، من أجل منافستها، وخلقْ البديل أمام الملاحة العالمية.
من هنا، كان لابد من التفكير بجدية فى إعادة تجديد شباب القناة، وحفر قناة جديدة لتطوير، وتوسعة القناة القديمة، ورفع كفاءتها، وزيادة قدرتها على استقبال الأجيال الجديدة العملاقة من الناقلات، بالإضافة إلى اختصار المدة الزمنية المقررة للعبور، مما يجعل القناة جاذبة للملاحة العالمية كما كانت منذ افتتاحها قبل ١٥٣ عاما.
اتخذ الرئيس عبدالفتاح السيسى القرار التاريخى (ازدواج القناة، وحفرْ قناة جديدة بطول ٣٥ كم، بالإضافة إلى توسيع، وتعميق تفريعات البحيرات المرة، والبلاح بطول ٣٧ كم، ليصبح إجمالى طول المشروع، كممر مزدوج، نحو ٧٢ كم ــ من علامة الكيلو ٥٠ حتى علامة الكيلو ١٢٢).
لم تكن فكرة القناة الجديدة عشوائية، أو غير مدروسة، كما يروج أهل الشر، وناشرو الشائعات، لكنها كانت فكرة قديمة خضعت لدراسات عديدة، حيث تم طرحها فى نهاية السبعينيات فى أثناء تولى الرئيس الراحل أنور السادات مسئولية الحكم، ولم تنفذ.
الفكرة نفسها أُعيد طرحها فى فترة الرئيس الراحل حسنى مبارك، لكنها لم تر النور أيضا.
كل هذا يؤكد أهمية الفكرة، وضرورتها، لكنها لم تظهر إلى النور، وتعثر تنفيذها بسبب غياب الإرادة السياسية؛ حتى جاء الرئيس عبدالفتاح السيسى، وتوافرت الإرادة السياسية، ليعلن فى ٥ أغسطس ٢٠١٤ البدء فعليا فى إنشاء القناة الجديدة، وتعميق المجرى الملاحى لمواجهة تحديات المنافسة الكثيرة، والمتشابكة (المعلنة، وغير المعلنة).
ضرب المصريون، كعادتهم، النموذج الأروع فى التضحية، والفداء، والوقوف صفا واحدا، وتم طرح شهادات استثمار قناة السويس على المصريين فقط، وتم جمع أكثر من ٦٠ مليار جنيه، وهو أكثر من المبلغ المطلوب، فى أقل من شهر، وحينها تقرر إغلاق الاكتتاب، ووقف إصدار شهادات جديدة بعد أن نجح المصريون فى التحدى، كعادتهم دائما، فى كل المواقف الوطنية.
انطلق حفر القناة الجديدة فى ٧ أغسطس ٢٠١٤، وشارك فى الملحمة الجديدة أكثر من ٤٤ ألف مواطن مصرى، و٤٥٠٠ معدة من خلال ٨٤ شركة.
خلال ٩ أشهر فقط تم إنهاء الحفر الجاف بنسبة ١٠٠%، لتبدأ بعدها مرحلة الحفر المائى (التكريك)، وخلال تلك المرحلة تم رفع ٢٥٨.٨ مليون متر مكعب من الرمال المشبعة بالمياه، واستغرق العمل فى تلك المرحلة نحو ٣ أشهر.
بعد عام، وتحديدا فى يوم ٦ أغسطس ٢٠١٥، قام الرئيس عبدالفتاح السيسى بافتتاح القناة الجديدة، وحضر حفل الافتتاح العديد من رؤساء، وملوك دول العالم، ورؤساء الوزراء، تأكيدا للأهمية العالمية لهذا الحدث التاريخى.
يوم الخميس الماضى، وفى أثناء احتفالية القرية الأوليمبية التى أقامتها هيئة قناة السويس، كشف الرئيس عبدالفتاح السيسى عن أن القناة الجديدة أسهمت فى زيادة أعداد السفن العابرة للمجرى الملاحى للقناة، وبالتالى أسهمت فى زيادة دخل قناة السويس، مشيرا إلى أن معدل الزيادة فى إيرادات القناة فاق تكلفة حفر قناة السويس.
أوضح الرئيس أن دخل قناة السويس قبل إنشاء القناة الجديدة كان يتراوح بين ٤٫٨ و٥ مليارات دولار.
بعد افتتاح القناة الجديدة ارتفعت إيرادات القناة إلى٥٫٥ مليار دولار، ثم إلى ٦ مليارات دولار، وفى العام الماضى ارتفع الرقم إلى ٧ مليارات دولار؛ فى زيادة تصل نسبتها إلى ما يقرب من ٥٠ % تقريبا.
ولأن الحقائق تختلف عن الشائعات، والأكاذيب، فإن الأرقام التى تحققها قناة السويس الآن أبلغ رد على هؤلاء الذين حاولوا نشر الشائعات حول جدوى القناة الجديدة، والإساءة إلى الدولة المصرية حينما تبنت تلك الفكرة العملاقة، ونجحت فى تنفيذها لتكون إعادة تجديد لشباب القناة، وخطوة اقتصادية بعيدة النظر أثبتت الأيام، والأحداث أهميتها، وضرورتها.
نجحت القناة، وتعاظمت إيراداتها، رغم الأحداث الجسيمة التى شهدها العالم خلال السنوات الثلاث الماضية، والتى بدأت بجائحة «كورونا»، ثم الحرب الروسية ــ الأوكرانية.
وسط حالة الركود العالمى، صمدت قناة السويس لأنها «الأفضل» اقتصاديا للتجارة الدولية، وبالتالى زادت معدلات استخدامها بعد أن استوعبت الأجيال الجديدة العملاقة، وخفضت المدد الزمنية اللازمة للعبور، مما انعكس بالإيجاب على تكلفة العبور لكل السفن.
قناة السويس هى النموذج العملى للمشروعات العملاقة العديدة التى تم إطلاقها خلال السنوات السبع الماضية، والتى خضعت لدراسات كثيرة، و«متعمقة» من أجل أن تسهم فى تغيير حياة المصريين إلى الأفضل، ومواكبة المتطلبات الكثيرة، والمتلاحقة للشعب المصرى.
ما حدث فى قناة السويس حدث فى مشروعات استصلاح، واستزراع أكثر من مليونى فدان حتى الآن ضمن خطة تستهدف استصلاح، واستزراع ٤.٥ مليون فدان، مما أسهم فى تخفيف حدة أزمة الغذاء التى عصفت بشعوب العالم عقب اشتعال الحرب الروسية ــ الأوكرانية.
ليس هذا فقط، بل إن المشروعات المتعددة، والعملاقة التى تم إطلاقها أخيرا بدأت تنعكس على الموازنة العامة للدولة المصرية، حيث زاد إجمالى الناتج المحلى للدولة ليصل إلى ٧٫٩ تريليون جنيه، بزيادة تصل إلى تريليون جنيه على إجمالى الديون المتراكمة على الدولة، عكس ما كان يحدث قبل ذلك من تصاعد حجم الدين، وانخفاض الإيرادات.