التحول من الاقتصاد «شبه الريعى» إلى «الإنتاجى»
التحول من الاقتصاد «شبه الريعى» إلى «الإنتاجى»
طبقا لبيانات البنك المركزى، التى صدرت فى نهاية الأسبوع الماضى، فقد شهد ميزان المعاملات الجارية تحسنا نسبيا خلال العام المالى الماضى ٢٠٢١ ـ ٢٠٢٢، حيث شهد عجز حساب المعاملات الجارية لمصر تراجعا بنسبة ١٠٫٢٪، ليسجل ١٦٫٦ مليار دولار مقابل ١٨٫٤ مليار دولار فى السنة المالية ٢٠٢٠ ـ ٢٠٢١.
على الجانب الآخر، وبعد عدة أشهر من التراجع، عاود الاحتياطى النقدى الارتفاع من جديد، ليصل إلى ٣٣٫١٩٧ مليار دولار فى نهاية الشهر الماضى، مقارنة بـ٣٣٫١٤١ مليار دولار خلال نهاية أغسطس الماضى، لتكون أول زيادة منذ خمسة أشهر بقيمة ٥٦ مليون دولار.
هذه المؤشرات وغيرها تؤكد قدرة الاقتصاد المصرى على التعافى، ومواجهة آثار الأزمات الاقتصادية العالمية بعد «كورونا»، والحرب الروسية ـ الأوكرانية.
كل ذلك يزيد من أهمية انعقاد المؤتمر الاقتصادى، الذى أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى، ووجه الحكومة بعقده خلال الفترة من ٢٣ إلى ٢٥ أكتوبر الحالى، لبحث الأوضاع الاقتصادية الراهنة، واستشراف آفاق مستقبل الاقتصاد المصرى، وأيضا من أجل وضع إستراتيجية متكاملة ودائمة تحصن الاقتصاد ضد الأزمات والمشكلات المتوقعة والطارئة، وتسهم فى تحويله من اقتصاد «شبه ريعى» إلى اقتصاد «إنتاجى».
بحسب تصريحات د. مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، فإن هناك ٢١ جهة محلية ودولية سوف تتم دعوتها للمشاركة فى أعمال المؤتمر، ومن المتوقع أن يبلغ عدد المشاركين فيه ما بين ٤٠٠ : ٥٠٠ مشارك من كل أطياف المجتمع المصرى والمتخصصين والخبراء من أجل التوافق على خريطة محددة لمستقبل الاقتصاد الوطنى على المدى القصير والمتوسط والبعيد لجميع القطاعات.
هذا الاستعداد الضخم من جانب الحكومة للتحضير للمؤتمر سوف يزيد من فرص نجاحه بعد أن قطعت مصر شوطا طويلا من الإنجازات خلال السنوات الثمانى الماضية، ونجحت فى إنشاء بنية اقتصادية ضخمة على كل الأصعدة، سواء فى مجال البنية الأساسية، من طرق وأنفاق ومحاور وكبارى، وكذلك إنشاء ١٤ مدينة جديدة تضاف إلى مساحة المعمور فى مصر، لتتم مضاعفة تلك المساحة من ٧٪ إلى ١٤٪ خلال الفترة المقبلة.
مضاعفة مساحة المعمور تعنى ببساطة مضاعفة قدرات مصر الاقتصادية فى مختلف المجالات، وهو ما انعكس على انخفاض معدلات البطالة، لتصل إلى ٧٫٢٪ لأول مرة منذ سنوات طويلة.
إلى جانب ذلك، هناك خطة ضخمة للتوسع فى استصلاح واستزراع الأراضى، لإضافة ما يقرب من ٦٠٪ من مساحة الأراضى الحالية إلى الرقعة الزراعية.
الخطة الطموحة التى وضعها الرئيس عبدالفتاح السيسى تتضمن إضافة ما يقرب من ٤ ملايين فدان إلى رقعة الأراضى الزراعية الحالية.
وبحسبة بسيطة، يتضح أن مساحة الأراضى الزراعية القديمة فى الدلتا والصعيد تبلغ نحو ٦٫١ مليون فدان، بواقع ٣٫٥ مليون فدان تقريبا فى الدلتا، و٢٫٦ مليون فدان فى الصعيد، فى حين أن الخطة الموضوعة للاستصلاح والاستزراع، تتضمن إضافة ما يقرب من ٤ ملايين فدان، أى أنه ستتم إضافة أكثر من ٦٠٪ من المساحة الحالية إلى رقعة الأراضى الزراعية.
الأراضى الجديدة موزعة على الريف المصرى، وسيناء، وتوشكى، والدلتا الجديدة، وغيرها من مشروعات الاستصلاح.
على سبيل المثال، فإن مشروع واحد فقط، وهو مشروع «مستقبل مصر»، الذى يدخل ضمن مشروع «الدلتا الجديدة»، سوف يسهم فى استصلاح واستزراع 2٫2 مليون فدان، بما يعادل 30٪ من مساحة الدلتا القديمة.
وبعد استكمال هذا المشروع، الذى افتتح الرئيس عبدالفتاح السيسى مرحلته الأولى فى مايو الماضى، فإنه من المقرر أن يستوعب ما يقرب من 30 مليون نسمة، مما يسهم فى إعادة هيكلة التركيبة السكانية، ويسمح باستيعاب الزيادات المتوقعة فى عدد السكان خلال المرحلة المقبلة.
التوسع فى مجال استصلاح واستزراع الأراضى هو نموذج عملى لإحداث التغيير الهيكلى فى الاقتصاد المصرى، وتحويله من اقتصاد «شبه ريعى»، يعتمد فى مقوماته الأساسية على السياحة والخدمات وتحويلات المصريين بالخارج، إلى اقتصاد «إنتاجى»، يعتمد بالأساس على القطاعات الإنتاجية فى مختلف المجالات الصناعية والزراعية والتكنولوجية، إلى جانب موارد الخدمات والسياحة وتحويلات المصريين بالخارج وغيرها.
كان من المقرر أن تقوم الحكومة بإعداد موازنة العام المالى 2020 / 2021 على فكرة التغيير الهيكلى فى الاقتصاد، إلا أن هبوط جائحة «كورونا» فجأة على العالم، ودون سابق إنذار غيّر المعادلة، واضطرت الحكومة إلى تأجيل مناقشة تلك الفكرة، لمواجهة تداعيات جائحة «كورونا».
لم يكد العالم يفيق من جائحة «كورونا»، حتى اندلعت الحرب الروسية ــ الأوكرانية التى كانت تداعياتها أكثر شراسة من جائحة «كورونا» على العالم كله، وأدخلت الاقتصاد العالمى فى نفق مظلم، ليشهد الاقتصاد العالمى اضطرابا غير مسبوق لم يحدث منذ «الكساد العظيم» فى ثلاثينيات القرن الماضى.
على الرغم من كل هذه الظروف العالمية المعقدة التى ألحقت الضرر بكل الاقتصادات العالمية بلا استثناء، فإنه لم يعد من المستساغ تأجيل اقتحام ملف التغيير الهيكلى للاقتصاد المصرى، وتحويله من اقتصاد «شبه ريعى» إلى اقتصاد «إنتاجى».
أعتقد أن المؤتمر الاقتصادى هو الفرصة الأهم فى ذلك الإطار، بحيث تتم دراسة هذا الملف بعمق، ومن جميع الجوانب، وطبقا لجدول زمنى محدد من خلال المحاور التالية:
أولاً: وضع خطة متكاملة لإحلال المنتجات المحلية محل المنتجات المستوردة، التى تبلغ فاتورتها السنوية تريليون جنيه تقريبا، بما يوازى أكثر من 50 مليار دولار، وهو ما يؤدى إلى الضغط على العملة الصعبة، وإضعاف العملة الوطنية (الجنيه)، وفقدانها نسبة كبيرة من قيمتها طالما استمر الضغط عليها لمصلحة العملات الصعبة، واتساع الفجوة بين الاستيراد والتصدير.
خلال فترة من الفترات، ومنذ عشرات السنين، رفعت مصر شعار «التصنيع من الإبرة إلى الصاروخ»، لكننا لانزال نستورد الكبريت، ولعب الأطفال، والاستيكة، والأقلام الجافة والرصاص، وغيرها من المنتجات البسيطة أو غير البسيطة.
الأمر يستدعى وضع خريطة متكاملة للقطاعات الأولى بالتصنيع فى المرحلة المقبلة من أجل توفير المنتجات المحلية البديلة للمنتجات المستوردة، طبقا لجدول زمنى محدد.
ثانيا: التوسع فى المشروعات الصغيرة للشباب والشركات البسيطة، بحيث تتمكن أى مجموعة من الأشخاص بسهولة من إنشاء الشركات الخاصة بالمشروعات الصغيرة مثل صناعات البلاستيك، وتدوير المخلفات، وصناعة الكرتون، والصناعات المكملة لصناعات السيارات مثل الفرش، ومستلزمات التنجيد، وغيرها من تلك النوعية من الصناعات التى تسهم فى إيجاد فرص عمل للشباب، وفى الوقت نفسه تسد احتياجات السوق من نوعيات معينة من المنتجات.
من المهم أن تكون البنوك طرفا أساسيا فى إقامة المشروعات الصغيرة، بحيث يتم إدخالها ضمن مبادرات البنك المركزى بفائدة ٥٪ متناقصة، للتسهيل على الشباب من أجل إقامة تلك المشروعات فى المحافظات المختلفة.
أيضا من المهم تسهيل استخراج التراخيص لتلك النوعية من المشروعات، وإلزام المحليات بضرورة تسهيل استخراج التراخيص وفق توقيت محدد، ومن الممكن إدخال هذه النوعية من المشروعات ضمن مبادرة «حياة كريمة»، لتوفير فرص عمل للشباب فى القرى، وتشجيعهم على إنشاء شركات مساهمة بسيطة، وربط تلك المشروعات بما تحتاجه المصانع الكبرى مثل مصانع السيارات، ومصانع الأثاث، ومصانع الملابس الجاهزة، وغيرها من الصناعات التى تستلزم مراحل إنتاج متعددة.
ثالثا: تفعيل المبادرة الوطنية لتطوير الصناعة المصرية من خلال استغلال الفرص الاستثمارية فى القطاعات الصناعية المختلفة، لتلبية احتياجات السوق المحلية، وزيادة القدرة على التصدير للخارج، وحل المشكلات والتحديات التى تواجه قطاع الصناعة بالتنسيق بين الوزارات والجهات المعنية، مثل اتحاد الصناعات المصرية، والغرف الصناعية والتجارية، للوصول إلى أفضل حلول للمشكلات، وتذليل جميع العقبات والصعاب.
رابعا: التنسيق بين القطاعات الإنتاجية المختلفة فى مجالات الزراعة والصناعة، لتعظيم العوائد من كلا القطاعين، والتنسيق فيما بينهما، سواء فى مجال إقامة صناعات الأسمدة والأعلاف، أو تلبية احتياجات مصانع الغزل والنسيج من الأقطان قصير التيلة، وغيرها من المجالات.
على سبيل المثال، فإن مصر تحقق الاكتفاء الذاتى من إنتاج الدواجن، ولكن هناك مشكلة ضخمة فى صناعة الأعلاف، حيث نضطر إلى استيراد نسبة كبيرة من الأعلاف نهائية الصنع أو المواد الخام من الخارج، وقد آن الأوان للربط بين صناعة الأعلاف الحيوانية والداجنة وبين قطاع الزراعة، خاصة فى الأراضى الجديدة، لسد الفجوة بين صناعة الأعلاف وإنتاج الثروة الحيوانية والداجنة خلال المرحلة المقبلة، ودون ذلك ستظل صناعة الدواجن والإنتاج الحيوانى صناعة هشة وضعيفة، لأنها تعتمد على الاعلاف المستوردة.
يبقى فى النهاية التأكيد على صلابة الاقتصاد المصرى، وقدرته على التحول من اقتصاد «شبه ريعى» إلى اقتصاد «إنتاجى» من خلال وضع إستراتيجية متكاملة لذلك الغرض خلال المؤتمر الاقتصادى، المقرر عقده فى الأسبوع الأخير من الشهر الحالى، من أجل استكمال ما تحقق خلال الفترة الماضية، والانطلاق نحو آفاق المستقبل، بعيدا عن التقلبات والأزمات العالمية المضطربة والفجائية، كما حدث فى أزمتى «كورونا»، والحرب الروسية ــ الأوكرانية، التى لم يكن أحد يتوقعهما أو يضعهما فى الحسبان.