الرمال السوداء والطريق إلى المؤتمر الاقتصادى

الرمال السوداء والطريق إلى المؤتمر الاقتصادى

الطريق إلى مصنع الرمال السوداء بكفر الشيخ طويل وممتد، حيث يقع فى منطقة البرلس. ورغم صعوبة الوصول فإن الإنجاز الذى تحقق هناك يستحق هذا العناء وما هو أكثر منه بعد أن تحول الحلم إلى واقع حقيقى.

قرب الوصول هاتفنى الزميل الصحفى أكرم السعدنى فأخبرته أننى فى الطريق لحضور حفل افتتاح مصنع الرمال السوداء، رد على الفور هل هذا الكلام صحيح؟!

قلت له: نعم .. أمامى بضعة كيلومترات للوصول، وبعد الانتهاء من الافتتاح يمكن أن أتحدث معك وأنا عائد من هناك.

قال: هذا المشروع كان حلما منذ فترة طويلة، وتأخر تنفيذه منذ سنوات، وتحدث عنه من قبل العديد من الخبراء والمتخصصين.

بعد الوصول، وبدء مراسم الافتتاح جاءت كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال مداخلته مع د. حامد ميرة رئيس هيئة المواد النووية لتؤكد تلك المعاني، حينما أشار إلى أن فكرة هذا المشروع تعود إلى ما يقرب من خمسين عاما، حيث بدأت دراسته فى السبعينيات ثم الثمانينيات لكن لم تتح الفرصة قبل ذلك لاتخاذ الإجراءات التنفيذية، مشيرا إلى أهمية المشروع وجدواه الاقتصادية، مما جعل الدولة تتخذ الخطوات اللازمة للتنفيذ بعد التأكد من كل عوامل النجاح سواء من حيث الجدوى الاقتصادية، أو حجم الاحتياطي، وكذلك حجم الطلب العالمي، بالإضافة إلى توافر إمكانية التوسع المستقبلى أكثر وأكثر، وطالب بضرورة إشراك القطاع الخاص من أجل إقامة عدد أكبر من المصانع، توفيرا للوقت وبهدف زيادة الإنتاج.

خلال الجولة التى قام بها الرئيس لتفقد مكونات هذا المشروع الضخم توقف الموكب أمام محطات الضخ والمصنع العائم الذى يبعد حوالى 12 كيلومترا عن مجمع المصانع والذى يتم من خلاله فصل الرمال السوداء كمرحلة أولى من مراحل الإنتاج، تمهيدا للمعالجة وفصل المكونات بعد ذلك.

فكرة محطات الضخ تشبه إلى حد كبير المضخات فى حرب أكتوبر المجيدة التى أدت إلى انهيار خط بارليف، حيث تقوم الكراكة «تحيا مصر» هولندية الصنع، وهى أول كراكة تعمل بالطاقة الكهربائية، بدفع المياه فى اتجاه الكثبان الرملية لتنساب إلى قاع البحيرة الصناعية، بالإضافة إلى أعمال تكريك بعمق يصل إلى 18 مترا لتسحب الماء المختلط بالرمال إلى المضخة الرئيسية بالكراكة، ليعاد ضخها مجددا إلى مصنع التركيز العائم داخل البحيرة مرورا بخطوط الأنابيب.

مصر تملك ثروة طبيعية ضخمة من تلك الرمال فى كفر الشيخ، وفى الشريط الساحلى الممتد بين مدينتى رفح فى سيناء وأبى قير بالإسكندرية بطول 400 كيلو متر، وكذا مواقع أخرى فى جنوب منطقة برنيس وبحيرة ناصر.

كل هذا يجعل من مشروع إنتاج الرمال السوداء مشروعا واعدا، وممتدا، لأن الرمال السوداء تدخل فى العديد من الصناعات الإستراتيجية المهمة مثل هياكل الطائرات والسيارات، والرقائق الإلكترونية، والصناعات التكنولوجية، والمفاعلات النووية، وصناعات السيراميك، والخزف، والدهانات، والعديد من الصناعات الأخري.

من بين مزايا هذا المشروع أنه مشروع كثيف العمالة، لأنه يستوعب أكثر من 5 آلاف فرصة عمل، مما يجعله من المشروعات كثيفة العمالة التى تسهم فى تخفيف حجم البطالة، وفى الوقت نفسه فإنه من المشروعات ذات الجدوى الاقتصادية الرائعة، حيث تبلغ عوائد القيمة المضافة المتوقعة له أكثر من 6 مليارات دولار خلال مراحل إنتاجه المتعددة فى الفترة المقبلة.

أعتقد أن هذا المشروع العملاق يصلح أن يكون نموذجا للمشروعات التى ينبغى التركيز عليها فى المرحلة المقبلة لأنه يجمع بين مميزات عديدة أبرزها الجدوى الاقتصادية المؤكدة، وإمكانية التوسع المستقبلي، بالإضافة إلى أنه من المشروعات كثيفة العمالة، مما يجعله جاذبا للاستثمار العام والخاص على السواء.

المؤكد أن توقيت افتتاح المشروع لا علاقة له بانطلاق المؤتمر الاقتصادى اليوم الأحد، لأن العمل فى المشروع بدأ منذ أكثر من 3 سنوات، بعد دراسة متعمقة له من كافة الجوانب، وافتتاحه جاء مرتبطا بإنهاء كافة الأعمال المتعلقة به، وبعد فترة التشغيل التجريبي، وبالتالى ليس هناك علاقة من قريب أو بعيد بين افتتاح هذا المشروع العملاق، وانطلاق المؤتمر الاقتصادي.

رغم ذلك فإنه من حسن الطالع أن يأتى الافتتاح مواكبا لانطلاق المؤتمر الاقتصادى ليكون نموذجا عمليا فى التغيير الهيكلى المنشود للاقتصاد المصري، والقدرة على تحويله من اقتصاد شبه ريعى تعتمد موارده الأساسية على الخدمات، والسياحة، وتحويلات المصريين بالخارج، ودخل قناة السويس، إلى اقتصاد إنتاجى يعتمد فى موارده الرئيسية على الصناعة، والزراعة، والتكنولوجيا، وتوفير احتياجات الاستهلاك المحلى من المنتجات، وزيادة الصادرات.

مصر تستورد سنويا ما قيمته تريليون جنيه، أى ما يقرب من 60 مليار دولار، وهو الأمر الذى يؤدى إلى الضغط الشديد على موارد مصر من العملة الصعبة، ومن الضرورى إعادة النظر فى تلك المعادلة العكسية، لتتحول مصر إلى دولة منتجة، وليست مستهلكة، وتتحول كذلك إلى دولة مصدرة وليست مستوردة.

معادلة صعبة لكن آن الأوان لمواجهتها مثلما حدث قبل ذلك، وتحققت إنجازات لم يكن من المتخيل تحقيقها خلال السنوات الثمانى الماضية.

هذه الإنجازات تحققت بفضل الله أولا ثم بالإرادة السياسية الصلبة، وثانيا كان آخر تلك الإنجازات مشروع الرمال السوداء الذى سمعنا عنه كثيرا فى فترات سابقة طويلة وممتدة ثم تحول إلى كيان اقتصادى عملاق، وتم افتتاحه خلال الأسبوع الماضي.

المؤتمر الاقتصادى هو المؤتمر الاقتصادى الثانى الأضخم الذى تعقده الحكومات المصرية، وكان المؤتمر الأول قد انطلق عام 1982 بعد انتهاء الانسحاب الإسرائيلى من سيناء.

كانت الفترة من 1967 حتى عام 1982 هى الفترة الأصعب فى تاريخ مصر بعد هزيمة 1967، وتحويل كل القدرات الاقتصادية إلى اقتصاد الحرب، فكان المهم إعادة تغيير الأولويات بعد انتهاء مرحلة الحرب، وإحلال السلام.

ناقش المؤتمر آنذاك أساليب تعزيز قاعدة الإنتاج، وزيادة نسب الادخار، والاستثمار، وترشيد الاستهلاك، والحد من الإسراف، والتمهيد لعملية إعادة البناء والتعمير بعد توقف دام ما يقرب من 15 عاما منذ 1967 حتى عام 1982.

المؤتمر الاقتصادى الذى ينطلق اليوم يأتى بعد أحداث مشابهة، وإن كانت الظروف مختلفة.

الأحداث مشابهة من حيث تعرض الدولة المصرية لثورتين خلال 3 سنوات فى الفترة من 2011 إلى 2013 ثم دخول مصر فى موجة هائلة من الحرب ضد الإرهاب استغرقت ما يقرب من 10سنوات.

أما من حيث الظروف المختلفة فقد شهدت الفترة من 1967 إلى 1982 توقفا شبه كامل فى إعادة البناء والتعمير، أما الفترة الحالية، خاصة خلال السنوات الثمانى الماضية فقد شهدت قفزة هائلة فى المشروعات، وإنشاء بنية اقتصادية ضخمة لم تشهدها مصر منذ عقود عديدة، ولم تتوقف يد التعمير انتظارا لانتهاء الحرب على الإرهاب، كما حدث خلال الفترة من 1967 إلى 1982.

نجحت مصر فى حربها ضد الإرهاب، ورغم التكلفة الهائلة التى تحملها الاقتصاد المصرى فى الحرب على الإرهاب، وكذلك التكلفة البشرية الضخمة التى راح ضحيتها أعداد كبيرة من الشهداء والمصابين، فإن عجلة الإنتاج والتعمير لم تتوقف، فكانت هناك يد تبنى وأخرى تكافح الإرهاب.

خلال السنوات الثمانى الماضية نجحت مصر فى إقامة أضخم شبكة للبنية التحتية من طرق، وأنفاق، ومحاور، وكباري، فى طول مصر وعرضها، وكذلك إقامة أضخم تجمعات عمرانية شملت أكثر من 14 مدينة جديدة تمتد من أسوان «أسوان الجديدة» إلى الإسكندرية «العلمين الجديدة» وبينهما باقى المدن مثل الإسماعيلية الجديدة، والجلالة، والمنصورة الجديدة، والعاصمة الإدارية، وغيرها من المدن الجديدة التى انتشرت فى ربوع الدولة المصرية لاستيعاب الزيادة السكانية الضخمة التى قفزت بأعداد السكان إلى ما يقرب من 104 ملايين نسمة.

إلى جوار ذلك تم اقتحام مجال الإنتاج الزراعى والاستصلاح بقوة غير مسبوقة بهدف استصلاح واستزراع ما يقرب من 4 ملايين فدان فى توشكي، ومستقبل مصر، والواحات، والوادى الجديد، والريف المصري، وغيرها من مشروعات الاستصلاح، بما يوازى أكثر من 60٪ من حجم المساحة المزروعة الآن.

كل هذا يجعل المؤتمر الاقتصادى الذى ينطلق اليوم مختلفا عن المؤتمر الاقتصادى الذى انطلق عام 1982 من حيث الأهداف والغايات.

الهدف الرئيسى فى تصورى هو ضرورة إجراء تعديل هيكلى فى الاقتصاد المصرى ليتحول إلى اقتصاد إنتاجى حقيقى قائم على أعمدة اقتصادية راسخة وقوية لإنتاج احتياجات الدولة المصرية من المنتجات الصناعية، والزراعية، والحيوانية، والتكنولوجية وتوفير تريليون جنيه سنويا، أو على الأقل نصف هذا المبلغ مما يتم إنفاقه فى الاستيراد، ومضاعفة التصدير لتحقيق هدف الـ 100 مليار دولار كمرحلة أولي.

هذه الإستراتيجية باتت ضرورية فى ظل الأحداث العالمية المضطربة، وغير المضمونة، والتى لن يستطيع أى اقتصاد الصمود أمامها إلا إذا تحصن بالإنتاج، وزيادة الصادرات، مقابل الحد من الاستيراد وترشيد الاستهلاك، حتى لا يظل الاقتصاد الوطنى عرضة للضغوط والاضطرابات العالمية المتوقعة أو غير المتوقعة، كما يحدث فى الأسواق العالمية الآن، والتى انعكست على الأوضاع الاقتصادية فى مصر مثل غيرها من دول العالم.

Back to Top