ما بين صلابة «المنزل» وعواصف «الحى»!
ما بين صلابة «المنزل» وعواصف «الحى»!
لا يمكن أن ينفصل المنزل عن الحى المحيط به، ولابد أن تكون هناك علاقة تأثير وتأثر من نوع ما بين المنزل والحى.
ربما تكون علاقة التأثير والتأثر قوية جدا، وربما تكون ضعيفة، لكن فى النهاية تبقى العلاقة قائمة وموجودة.
توقفت طويلا أمام كلمة د. محمد العريان، الخبير الاقتصادى العالمى ـ المصرى الأصل، التى ألقاها «مسجلة» فى افتتاح المؤتمر الاقتصادى الأسبوع الماضى، والتى ركز فيها على السياق العالمى المحيط بمصر، مشبها الوضع بمنزل يوجد فى حى، قائلا: «الأحياء ذات أهمية وتأثير على المنزل، فالحى الجيد يعزز من قيمة المنزل، فى الوقت الذى تفرض فيه التحديات التى يواجهها الحى تحديات على المنزل».
وأشار إلى أن الواقع العالمى، الذى يمثله الحى الذى نعيش فيه الآن، فرض تحديات ضخمة على المنزل، ويقصد به مصر، حيث يعانى الاقتصاد العالمى، والنظام المالى العالمى العديد من التحديات التى ولدت من رحم الدول المتقدمة، واقتصادات مجموعة السبع على وجه الخصوص، مؤكدا أنه كلما ازداد عدم الاستقرار فى الدول المتقدمة، تفاقمت هشاشة الاقتصاد العالمى.
هذا هو ما يحدث بالفعل الآن فى الاقتصاد العالمى الذى يعانى اضطرابات ضخمة، أدت إلى انهيارات ضخمة فى أسعار العملات، وتحذيرات شديدة من وكالات التصنيف، وتدخلات من البنوك المركزية، وانهيارات حكومية فى دول كبرى كما حدث فى إيطاليا، ومؤخرا فى بريطانيا.
الواقع العالمى المضطرب الذى فرضته أزمة «كورونا»، ثم الحرب الروسية - الأوكرانية خلق حالة من الفوضى، وعدم اليقين فى الاقتصادات الكبرى فى العالم، ومنه انتقلت العدوى إلى الاقتصادات الناشئة، والنامية، والأقل نموا.
الاقتصاد المصرى مثله مثل غيره من الاقتصادات العالمية تأثر بتلك الأزمات، التى أدت إلى موجة عالمية من التضخم، وارتفاع حاد فى قيمة الدولار، واضطراب أسواق المال، مما جعل البيئة العالمية الاقتصادية (الحي) تضغط بشدة على «المنزل».
لو لم يكن «المنزل» صلبا وقويا كان من الممكن - لا قدر الله - أن تكون التأثيرات أكبر وأضخم، وربما كانت تصل إلى تهديد بقائه وانهياره، إلا أن قوة المنزل وصلابته جعلته قادرا على الصمود والبقاء، ومواجهة العواصف الساخنة، والاضطرابات والقلاقل فى الحى الذى نعيش فيه.
ما حدث خلال السنوات الثمانى الماضية أسهم فى تقوية وثبات «المنزل» ضد العواصف والقلاقل والاضطرابات، وهو الأمر الذى أسهم فى تخطى عقبة «كورونا» بأقل الخسائر، ثم جاءت كارثة الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وكان لزاما ضرورة المواجهة، ومعالجة المشكلات الناتجة عن البيئة المحيطة نتيجة حالة عدم اليقين، وأزمات أسعار الوقود، ونقص المعروض من السلع، وارتفاع حجم الطلب.
ما حدث الخميس الماضى من التوصل إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد بشأن برنامج الإصلاح الاقتصادي، والممتد لأربع سنوات، ينهى حالة التوترات والشائعات، والمؤكد أنه بداية للخروج من الأزمة فى مصر، لأن الاتفاق هو شهادة ثقة من الصندوق للاقتصاد المصرى أمام مؤسسات التمويل العالمية، ورسالة طمأنة للداخل والخارج على السواء.
القصة ليست فى قيمة القرض، لكن أهمية الاتفاق تكمن فى أنه يؤكد استقرار الاقتصاد المصرى، وينهى حالة «اللغط» و«الشائعات» التى يرددها أصحاب النيات السيئة أو حتى ذوى النيات «الحسنة» الذين ينساقون وراء الشائعات والأكاذيب، المتعلقة بعدم قدرة الاقتصاد المصرى على مواجهة الصدمات أو الوفاء بالتزاماته الداخلية والخارجية.
سبق اتفاق الصندوق صدور تقرير مهم عن وكالة «استاندرد آند بورز» للتصنيف الائتمانى، الذى أبقت فيه الوكالة على التصنيف الائتمانى لمصر بالعملتين المحلية والأجنبية دون تعديل عند مستوى «B» مع الإبقاء على نظرة مستقبلية مستقرة، مما يعكس أيضا ثقة مؤسسات التصنيف الائتمانية فى ثبات الاقتصاد المصرى وصلابته، وقدرته على التعامل الإيجابى مع التداعيات الخارجية.
ولأن إجراءات الإصلاح الاقتصادى اقتضت ضرورة تحريك سعر الصرف، بما يعكس قيمة الجنيه المصرى الحقيقية مقابل العملات الأجنبية الأخرى بواسطة قوى العرض والطلب، فقد اتخذ الرئيس عبدالفتاح السيسى حزمة عاجلة من الإجراءات، لتخفيف الأعباء عن المواطنين، شملت رفع الحد الأدنى للأجور إلى 3000 جنيه، وعلاوة اجتماعية استثنائية 300 جنيه لجميع العاملين بالدولة وأصحاب المعاشات، وتثبيت أسعار الكهرباء والبنزين والسولار، وأسعار تذاكر المترو والقطارات، وكذلك صرف مساعدات استثنائية لما يقرب من 9 ملايين أسرة لـ6 أشهر مقبلة، ورفع حد الإعفاء الضريبى إلى 30 ألف جنيه سنويا، إلى جانب العديد من الإجراءات الأخري.
هذه الإجراءات جاءت فى التوقيت المناسب، للحفاظ على استقرار السوق، وكبح جماح التضخم، والسيطرة على الأسعار، وطمأنة المواطنين، فلن تزيد أسعار البنزين أو السولار فى الفترة الحالية، وكذلك لن تزيد الكهرباء أو التذاكر، ومن ثم أسهمت هذه الحزمة من القرارات فى تهدئة الأسواق، وبعثت رسالة طمأنة إلى المواطنين بأن تحريك سعر الصرف لن يستتبعه بالضرورة تحريك الأسعار، كما كان يحدث قبل ذلك.
البنك المركزى أكد مرونة سعر الصرف، وهو ما يؤكد أن سعر الصرف لا يرتبط بهبوط سعر الجنيه أو ارتفاع الدولار فقط، ولكن السعر المرن يعنى إمكانية ارتفاع سعر الدولار ثم انخفاضه، كما حدث قبل ذلك حينما ارتفع سعر الدولار قبل 2016 إلى ما يقرب من 20 جنيها، ثم انخفض بعد ذلك أو استقر عدة سنوات ما بين 15 وأقل من 16 جنيها حتى أزمة الحرب الروسية - الأوكرانية.
البنك المركزى قرر أيضا رفع أسعار الفائدة 2% (200 نقطة أساس)، وذلك على عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة، وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزى، ليصل إلى ١٣٫٢٥% و١٤٫٢٥% و١٣٫٧٥% على الترتيب. كما تم رفع سعر الائتمان والخصم بواقع 2% (200 نقطة أساس)، ليصل إلى ١٣٫٧٥% .
قرار رفع أسعار الفائدة جاء بهدف احتواء الضغوط التضخمية الناجمة عن الطلب، وارتفاع معدل نمو السيولة المحلية، والتوقعات التضخمية، والآثار الثانوية لصدمات العرض.
أعتقد أن قرار رفع أسعار الفائدة «موفق» و«حكيم»، وجاء فى توقيته المناسب، ليحتفظ الجنيه المصرى بجاذبيته للادخار من جانب الأفراد، وتعويض أصحاب المدخرات عن انخفاض قيمة الجنيه، ومواجهة ظاهرة «الدولرة» التى يلجأ إليها المضاربون والسماسرة، وتجار الأزمات.
هى إذن سلسلة محكمة من الإجراءات والفعاليات جاءت مواكبة لاتفاق صندوق النقد، لتكون بمنزلة رسالة للداخل والخارج، على السواء، باستقرار الاقتصاد المصري، وقوته، وصلابته، وقدرته على مواجهة التحديات الطارئة التى ضربت الاقتصادات العالمية.
اتفاق صندوق النقد الدولى أكد صلابة “المنزل”، على الرغم من العواصف العاتية التى ضربت “الحي” بكامله، وهو ما جعل المنزل قادرا على استيعاب تلك الأضرار البالغة التى لحقت بالجميع، على الرغم من تكاليفها المرتفعة، وآثارها السلبية السيئة.
أتوقع أن تشهد الأسابيع القليلة المقبلة عودة الهدوء والاستقرار إلى سوق الصرف، وزيادة المعروض من النقد الأجنبى من مصادره التقليدية وغير التقليدية، ليعود الاستقرار فى أسواق السلع بمختلف أنواعها، وتدور عجلة الاقتصاد بأفضل مما كانت عليه قبل الأزمة الطارئة.
إطلاق المعرض الدولى والملتقى الأول للصناعة، صباح أمس، الذى نظمه اتحاد الصناعات المصرية بمناسبة مرور 100 عام على تأسيسه، والذى افتتحه الرئيس عبدالفتاح السيسى، يؤكد تبنى الدولة مفهوما جديدا ومختلفا خلال المرحلة المقبلة، يقوم على فكرة التغيير الهيكلى للاقتصاد المصرى، وتحويله من اقتصاد شبه ريعى إلى اقتصاد إنتاجى قوى، وقادر على مواجهة الأزمات والتحديات، ليظل “المنزل” قويا وصلبا فى مواجهة العواصف والأنواء المتوقعة وغير المتوقعة، التى تأتى من الحى المحيط الذى نسكن فيه، والتى نتأثر بها «شئنا» أم «أبينا»، والمهم أن نكون أكثر قدرة على مواجهتها، والتداعيات التى تنجم عنها، وهو الدرس الاقتصادى الأهم من تلك الأزمة العالمية العاتية، والتى لم تكن متوقعة على الإطلاق.