الخطوط الحمراء «مرفوعة» من الحوار الوطنى.. ولكن
الخطوط الحمراء «مرفوعة» من الحوار الوطنى.. ولكن!
منذ نحو العام، أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى مبادرة الحوار الوطنى على مائدة «إفطار الأسرة المصرية» فى رمضان قبل الماضى، فى مفاجأة سارة أنعشت الحياة السياسية، وحركت المياه الراكدة، وأطلقت العنان للطموحات والأحلام فى تحقيق حلم إقامة الدولة الديمقراطية المدنية العصرية الحديثة.
دأب الرئيس عبدالفتاح السيسى، منذ بدء ولايته، على إطلاق المبادرات الاقتصادية والاجتماعية التى أسهمت فى تغيير واقع الدولة المصرية إلى الأفضل، بعد استئصال شأفة الإرهاب، ومضاعفة مساحة المعمور من 7 إلى 14٪، وكذلك انطلاق المبادرات الرئاسية غير المسبوقة مثل مبادرة «حياة كريمة» التى تستهدف تحسين حياة نحو 60٪ من أفراد الشعب المصرى.
جاءت مبادرة الحوار الوطنى فى توقيتها الصحيح، لتجديد الهواء فى المناخ العام، بعد أن عادت الدولة المصرية «قوية» و«عفية»، وخرجت من فترة النقاهة فى أعقاب ثورتين فى 3 سنوات (25 يناير و30 يونيو)، والنجاح فى الحرب على الإرهاب التى استغرقت ما يقرب من 8 سنوات (من 2014 إلى 2022).
أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى مبادرة الحوار الوطنى تحت مظلة «وطن يتسع للجميع»، وشعار «الاختلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية»، وهو الأمر الذى كان محل ترحيب من كل القوى السياسية، وبما يعزز حق «المواطنة» كأساس للعمل السياسى.
خلال العام الماضى جرت مياه كثيرة فى نهر الحوار الوطنى، حيث تم الإفراج عن المئات من المحبوسين على ذمة قضايا سياسية. كما استفاد عدد آخر من المحكوم عليهم بشمولهم بالعفو الرئاسى، وهم ممن صدرت ضدهم أحكام، وذلك فى إطار تفعيل لجنة العفو الرئاسى، التى تقوم بدور كبير وفعال فى هذا الإطار منذ إطلاق مبادرة الحوار الوطنى.
أما المفاجأة السارة الثانية، التى أكدت جدية الحوار الوطنى، فقد تمثلت فى الاستجابة السريعة للرئيس عبدالفتاح السيسى لمقترح مجلس أمناء الحوار الوطنى بضرورة إجراء تعديل تشريعى يسمح باستمرار الإشراف القضائى الكامل على العمليات الانتخابية (رئاسية ــ برلمانية ــ محليات ــ استفتاءات).
فقد تقدّم مجلس أمناء الحوار الوطنى بتوصية لإجراء تعديل تشريعى على نص المادة «34» من قانون الهيئة الوطنية للانتخابات، لكى يتيح الإشراف القضائى الكامل على عمليات الاقتراع والفرز فى الانتخابات والاستفتاءات التى تجرى فى البلاد بنظام «قاض لكل صندوق»، حيث إن هذه المادة كانت قد حددت مدة الإشراف القضائى بعشر سنوات فقط من تاريخ العمل بالدستور (18 يناير 2014)، وتنتهى فى 17 يناير 2024.
لم تمر 24 ساعة على توصية مجلس أمناء الحوار الوطنى، إلا وكانت استجابة الرئيس عبدالفتاح السيسى قد ظهرت إلى النور عبر منشور على حساباته الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعى، مؤكدا أنه وجه الحكومة والأجهزة المعنية فى الدولة بدراسة مقترح الحوار الوطنى بشأن التعديل التشريعى الذى يسمح بالإشراف الكامل من الهيئات القضائية على العمليات الانتخابية، بالإضافة إلى بحث آليات تنفيذه.
هذه الاستجابة السريعة خلّقت حالة من الارتياح لدى كل المدعوين والمشاركين والمهتمين بالحوار الوطنى، مما كان له أكبر الأثر فى مشاركة كل الأطراف فى مائدة الحوار الوطنى بجلسته الافتتاحية الأربعاء الماضى.
ذهبت إلى الجلسة الافتتاحية وفى جعبتى الكثير من التساؤلات، والآمال، والطموحات، عن المشاركين وأطيافهم، ومستوى التمثيل الرسمى والحزبى؟، وجدية المشاركة، والخطوط الحمراء فى الحوار؟، وما يتعلق بالمسموح والمحظور؟، وغيرها من التساؤلات، وقد خرجت بعد نهاية الجلسة بتلك الانطباعات والملاحظات:
أولا: أعتقد أن افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسى جلسة الحوار الافتتاحية بكلمة مسجلة، أشار فيها إلى متابعته الدقيقة كل تفاصيل الحوار، ومشاركته فى الجلسات النهائية، يؤكد جدية الحوار بكل مشتملاته، وأن المخرجات سوف تجد طريقها إلى القنوات الرسمية، لترجمتها إلى قرارات، والاستفادة منها كتوصيات ومقترحات.
يعزز ذلك تثمين الرئيس التنوع والاختلاف فى الرؤى والأطروحات، على اعتبار أن ذلك يسهم بقوة فى كفاءة المخرجات، مطالبا المشاركين بضرورة بذل الجهود، لإنجاح الحوار، واقتحام كل القضايا والمشكلات، وإيجاد الحلول والبدائل لها.
ثانيا: مشاركة د. مصطفى مدبولى، وعدد كبير من الوزراء، فى الجلسة الافتتاحية، والإنصات إلى كلمات المتحدثين، كان له أثر طيب على جميع المشاركين فى الحوار، بما يصب فى خانة تفاعل الحكومة مع مناقشات الحوار، والاستعداد لتفعيل مخرجاته النهائية، بعد بلورتها، والتوافق عليها.
ثالثا: تأكيد المنسق العام للحوار، ضياء رشوان، استيعاب الحوار كل القضايا المجتمعية المطروحة فى إطار السعى لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، دون خطوط حمراء على أى نوع من الأطروحات إلا ما يقتضيه الدستور والقانون، كان له أكبر الأثر فى خلق حالة من التفاؤل العام لدى المشاركين.
هذا الطرح أكد أيضا أن الحوار الوطنى يستوعب «الجميع»، لكن فى الوقت نفسه هناك محددات طبيعية تشكّل الإطار الطبيعى للحوار، وهى كل ما يتعلق بالدستور، وضرورة الحفاظ عليه، ومن ثم فقد تم استبعاد كل من مارس العنف أو حرض عليه، وكل من يرفض الدستور، وهو أمر طبيعى تتساوى فيه أعرق الديمقراطيات أو أحدثها، فلا مجال للعبث بالدستور أو القانون.
أما القضايا التى يمكن طرحها فكل القضايا متاحة باستثناء ملفات التعديلات الدستورية، أو السياسة الخارجية، وكذلك الأمن القومى الإستراتيجى، ثقةً من كل الأطراف فى القوات المسلحة المصرية.
رابعا: جاءت كلمة السيد عمرو موسى قوية، وشاملة، وتعبر بوضوح عن أن الحوار الوطنى فعلا بلا سقف، ودون خطوط حمراء مادام ذلك فى إطار الرغبة الصادقة للتعبير عن مشكلات المواطن، وأحلامه، وطموحاته، وأنه حوار غير «مستأنس» أو «موجه»، على عكس محاولات تصويره من أبواق الشر الهاربة للخارج.
خامسا: كلمة د. حسام بدراوى، صاحب الخبرة الكبيرة، الذى اكتوت أصابعه بنيران ما حدث فى 25 يناير، كانت صادقة، ومعبرة بوعى عن ضرورة الحفاظ على الدولة القوية وكياناتها تحت أى مسمى، مؤكدا ضرورة أن يقوم النظام السياسى على مبادئ: التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات، والتوازن بينها، بالإضافة إلى تلازم المسئولية مع السلطة، واحترام حقوق الإنسان، مشيرا إلى أن الدستور المصرى يؤكد ذلك ويحميه، إلا أنه طالب بإيجاد صيغ جديدة للحفاظ على توازن القوى فى المجتمع من خلال التطبيق الناجز للقانون، والتركيز على خطة للتنمية الإنسانية (التعليم والصحة) تكون لها الأولوية، وتأكيد تداول السلطة السلمى دون هدم ولا فوضى.
سادسا: مشاركة السيد حمدين صباحى عبر كلمة قصيرة، ألقاها نيابة عنه المنسق العام للحوار الوطنى، جاءت بمنزلة تقدير كبير، ولها مغزى عميق، ومعنى صادق، للثقة فى الحوار، على الرغم من الظروف الخاصة المتعلقة بوفاة شقيقته، وهو ما يؤكد بوضوح ثقة كل الأطياف فى الحوار الوطنى، والرغبة الأكيدة فى إنجاح هذا الحوار، والوصول به إلى بر الأمان، بما يحقق طموحات كل المواطنين على اختلاف توجهاتهم السياسية والحزبية.
سابعا: لفت انتباهى أيضا وجود كل أطياف العمل السياسى والحزبى والنقابى والاجتماعى داخل القاعة، ووجود نبرة تفاؤل جادة بمستقبل الحوار، والقدرة على صياغة مخرجات تحافظ على ما تحقق من مكتسبات خلال الأعوام الماضية، وفى الوقت نفسه اقتحام كل المشكلات والتحديات الحالية، سواء ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، من أجل رسم ملامح الجمهورية الجديدة، وإقامة دولة ديمقراطية حديثة تضمن خريطة طريق للأبناء والأحفاد، من أجل مستقبل واعد مشرق يليق بهم.