أوجاع الأمة على مائدة القمة من «أنشاص» إلى «جدة»
أوجاع الأمة على مائدة القمة من «أنشاص» إلى «جدة»
بقلم: عبد المحسن سلامة
منذ 77 عاما، وبالتحديد فى 28 مايو 1946، انطلقت أعمال أول قمة عربية فى مدينة أنشاص بمصر، وبالتحديد فى قصر الملك فاروق هناك، وحضر القمة العربية الأولى مجموعة الدول العربية السبع المؤسسة للجامعة العربية: مصر والسعودية والأردن والعراق واليمن وسوريا ولبنان.
ما بين القمة الأولى فى «أنشاص» والقمة الأخيرة التى عقدت فى «جدة»، أمس الأول الجمعة، جرت مياه كثيرة ومتلاحقة فى نهر الجامعة العربية ما بين تحديات، وظروف، وآمال، وتطلعات، وانتصارات، وانكسارات، ومشاكل، وتفاهمات.
اتسعت عضوية الجامعة العربية، وبعد أن كانت سبع دول أصبحت 22 دولة، تمتد وتتوزع بين قارتى آسيا وإفريقيا، لكنها جميعا تتحدث اللغة العربية كلغة رسمية، وتبلغ مساحة أراضيها أكثر من 13 مليون كم2، وبذلك تكون الدول العربية ثانى أكبر مساحة فى العالم بعد روسيا، فى حين أن مساحة الدول العربية أكبر من مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك أكبر من مساحة الصين.
أما من حيث عدد السكان، فإن عدد سكان العالم العربى يبلغ نحو 430 مليون نسمة، بما يوازى 5٪ من إجمالى سكان العالم، وتحتل الدول العربية المركز الرابع، بعد الصين والهند والاتحاد الأوروبى.
منذ 77 عاما كانت القضايا مختلفة، والأوضاع العالمية غير الأوضاع الآن، وكانت لاتزال معظم الدول العربية تقع تحت براثن الاحتلال المتنوع، ما بين الاحتلال الإنجليزى والإيطالى والفرنسى والإسبانى، وربما يكون ذلك هو الدافع الأكبر لعدم اشتراك كل الدول العربية فى القمة الأولى، حيث كانت معظم الدول تعانى الاستعمار بأشكاله وأنواعه المختلفة.
بعد ذلك، وقعت الكارثة الكبرى أو النكبة الكبرى فى 1948، أى بعد القمة الأولى بعامين، حينما قامت دولة إسرائيل منذ 75 عاما بعد «وعد بلفور» المشئوم، الذى أسس لتلك الكارثة فى 1917، وما صاحبه من ادعاءات كاذبة بضرورة تقسيم فلسطين إلى دولتين: واحدة للفلسطينيين، والثانية لإسرائيل، وقيام وطن قومى لليهود فى فلسطين.
بعد نكبة فلسطين انطلقت موجة الثورات العربية الأولى فى الخمسينيات والستينيات، لتستقل معظم الدول العربية عن الاستعمار الأجنبى، ويرتفع سقف الحلم العربى إلى تجارب وحدوية محدودة، لم تصمد طويلا بسبب التدخلات الأجنبية والمؤامرات رغم الرغبة الشعبية الجامحة فى الوحدة العربية، إلا أن تلك الفكرة ظلت تراوح مكانها، تطفو على السطح فترة، ثم تخبو طويلا بسبب عدم وجود آليات عملية وقابلة للصمود، لتحقيق ذلك الحلم، لكن ربما تكون الحسنة الوحيدة طيلة تلك الفترة هى صمود جامعة الدول العربية، واستمرار وجودها، بعد أن أصبح أمل الحفاظ على انعقاد القمة الدورى يحتاج إلى صبر ومجهود وحسن إدارة، وهو ما نجحت فيه الجامعة العربية طيلة تلك الفترة.
أعتقد أن الحفاظ على دورية الانعقاد، والتقاء الزعماء العرب ببعضهم البعض يساعدان على إذابة الجليد العربى، وربما يساعدان فى وقت ما على تفعيل دور الجامعة أكثر وأكثر، خاصة فى ظل وجود كيانات أخرى مشابهة نجحت فى القفز خطوات كبيرة نحو التكامل الاقتصادى والسياسى، وعلى مختلف الأصعدة مثلما حدث فى الاتحاد الأوروبى، وتجمعات أخرى.
الاتحاد الأوروبى تأسس فى 1991، أى بعد جامعة الدول العربية بنحو 45 عاما، ومع ذلك خطا خطوات واسعة لم تستطع جامعة الدول العربية تحقيقها حتى الآن، على الرغم من أنه يضم تنويعات ثقافية وعرقية ولغوية مختلفة، وأحيانا متناقضة. كما أن مساحته نحو ثلث مساحة العالم العربى، فى حين يبلغ عدد سكانه أكثر من عدد سكان العالم العربى بقليل.
نجح الاتحاد الأوروبى فى أن يتحول إلى سوق موحد، ويعتمد عملة واحدة، هى «اليورو» التى تستخدمها 19 دولة عضوا فيه، وله سياسة زراعية موحدة، وسياسة صيد بحرى موحدة.
على الرغم من ذلك النجاح فقد أصيب بانتكاسة ضخمة فى 2016 حينما قررت بريطانيا الخروج منه باستفتاء شعبى، وأصبحت أول دولة تنسحب منه رسميا فى 31 يناير 2020، مما يفتح الباب أمام تكهنات كثيرة بشأن مستقبله، والقدرة على ضمان استمراره، لكنه فى كل الأحوال مازال قائما وصامدا، ويتسع أكثر وأكثر، كما حدث خلال السنوات القليلة الماضية.
بعيدا عن الأحلام والطموحات الخيالية، فقد جاءت القمة العربية فى جدة، التى انعقدت أمس الأول، فى توقيت غاية فى الأهمية، وفى ظروف شديدة التعقيد يمر بها العالم العربى الآن، وسط اشتعال العديد من الأزمات، سواء تلك المشكلات القديمة والمتجددة أو تلك التى لاتزال ساخنة بسبب حداثة وقوعها.
الترتيب لعقد اجتماع القمة كان ناجحا وموفقا بسبب الجهد غير العادى الذى بذلته المملكة العربية السعودية فى التحضير والتجهيز والتعاون الوثيق بين الأمين العام للجامعة، السفير القدير والمتميز أحمد أبوالغيط من جانب، والمملكة العربية السعودية من جانب آخر، مما كان له أكبر الأثر فى كثافة الحضور من القادة والزعماء العرب، والاتفاق على جدول الأعمال دون تجاهل لأى من القضايا والشواغل والهموم العربية، بدءا من القضية الفلسطينية مرورا بالسد الإثيوبى، وانتهاء بالأزمة السودانية.
أيضا كان حضور الرئيس السورى، بشار الأسد، القمة مثار ترحيب من جميع الوفود العربية المشاركة فيها، بما يعكس الرغبة العربية الجماعية فى تجاوز مشكلات الماضى، وما ترتب عليها من قطيعة لم تكن مبررة، واستبعاد لم يكن موفقا.
اللافت للانتباه أيضا حضور السفير دفع الله الحاج على عثمان ممثلا خاصا لرئيس مجلس السيادة السودانى، الفريق عبدالفتاح البرهان، وهو ما يعنى رفض الجامعة أى محاولات للخروج عن الشرعية فى السودان، وتمسك القمة العربية بالحفاظ على سيادة واستقلال السودان، ووحدة أراضيه، ورفض التدخل فى شئونه الداخلية، بوصف الأزمة الحالية شأنا داخليا، مع التشديد على الحفاظ على مؤسسات الدولة.
أعتقد أن كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى كانت بمنزلة «رؤية» كاشفة للأزمات العربية، خاصة فى ظل تصاعد الأزمات فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وما تقوم به مصر من جهد مخلص ودؤوب، للتهدئة، وهو الأمر الذى كان محل إشادة من الكثيرين من زعماء وقادة الدول العربية فى أثناء كلماتهم أمام القمة.
الرئيس حذر من استمرار إدارة الصراع عسكريا وأمنيا من قِبل اسرائيل، مما ينذر بعواقب وخيمة على الشعبين الفلسطينى والإسرائيلى.
أما الأزمة «الأحدث»، وهى الأزمة السودانية، فقد طالب الرئيس القمة بضرورة التعاون، لاحتواء تلك الأزمة، حتى لا تتحول إلى أزمة «مزمنة» وتبعات «كارثية»، كما حدث فى أزمتى ليبيا واليمن.
الملاحظ أن «إعلان جدة»، والقرارات التى اعتمدها مجلس الجامعة العربية، قد تطرقت إلى كل القضايا والهموم والشواغل العربية، وأبرزها ما يلى:
أولا: دعم الشعب الفلسطينى، وتأكيد مركزية القضية الفلسطينية لدى الدول العربية، ودعم حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته على الأراضى المحتلة فى 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
ثانيا: مساندة الشعب السودانى، والحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية، ومنع انهيارها، ورفض أى تدخل خارجى يؤجج الصراع، ويهدد السلم والأمن الإقليميين.
ثالثا: تأكيد مساندة ودعم كل ما يضمن أمن واستقرار الجمهورية العربية اليمنية، ويحقق تطلعات الشعب اليمنى، وضرورة التوصل إلى حل سياسى شامل لأزمته، استنادا إلى مرجعيات المبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطنى، وقرار مجلس الأمن رقم 2216.
رابعا: تطرق الإعلان إلى تأكيد حق التنمية المستدامة والأمن والاستقرار للمواطن العربى، وضرورة تحقيق نهضة عربية صناعية وزراعية شاملة، وهو ما يفتح الباب أمام تحقيق التكامل الاقتصادى العربى وتحقيق طموحات الشعوب العربية.
خامسا: أكد القادة العرب أن الأمن المائى لمصر والسودان جزء لا يتجزأ من الأمن القومى العربى، ورفض أى عمل أو إجراء يمس حقوقهما المائية، بما فى ذلك الاستمرار فى ملء وتشغيل السد الإثيوبى دون التوصل إلى اتفاق على قواعد ذلك، وهو ما يشير إلى وحدة الموقف العربى من تلك القضية الحساسة التى تشغل بال الشعبين المصرى والسودانى وتؤرقهما.
ختاما.. جاء «إعلان جدة»، والقرارات المنبثقة عن القمة، لتكون رسالة معنوية مهمة تبعث الأمل والطمأنينة فى نفوس الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وتؤكد أن الأحلام والآمال والتطلعات العربية لاتزال قابلة للتحقيق، وقد ترى النور يوما ما فى المستقبل القريب ــ إن شاء الله.