العدالة «الغائبة» فى التمويل الدولى «الجائر»
العدالة «الغائبة» فى التمويل الدولى «الجائر»
ربما تكون الأهمية الكبرى للقمة التى شهدتها العاصمة الفرنسية (باريس)، خلال نهاية الأسبوع الماضى، تحت عنوان «من أجل ميثاق مالى عالمى جديد»، أنها ألقت بحجر ضخم فى بحيرة النظام المالى العالمى «الجائر»، وأطلقت صيحة تحذير ضخمة قبل وقوع أزمة ديون عالمية كبرى تلقى بظلالها على الاقتصاد العالمى إذا استمر النظام المالى العالمى الحالى دون إصلاح حقيقى.
الرئيس عبدالفتاح السيسى طالب، خلال المؤتمر، بضرورة اتخاذ قرارات دولية سريعة تحول دون اندلاع أزمة ديون كبرى، وكذلك استحداث آليات شاملة ومستدامة، لمعالجة ديون الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، فضلا عن التوسع فى مبادلة الديون من أجل الحفاظ على الطبيعة.
قبيل القمة الفرنسية بعدة أيام، هاجم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، صندوق النقد والبنك الدوليين، ووجه لهما انتقادات لاذعة، داعيا إلى إجراء تغييرات كبرى فى المؤسستين، لتصحيح ماسماه «الأخطاء التاريخية والتحيز والظلم المتأصل فى الهيكل المالى الدولى الحالى».
أوضح «جوتيريش»، فى تصريحاته، أن صندوق النقد الدولى أفاد الدول الغنية بدلا من الدول الفقيرة، مشيرا إلى أن الهيكل المالى العالمى الحالى نشأ فى ظل الحقبة الاستعمارية، عندما كان العديد من الدول النامية لايزال تحت الحكم الاستعمارى.
الأمين العام للأمم المتحدة كان معه الحق فى هجومه الكاسح على صندوق النقد والبنك الدوليين، ودلل على ذلك بأن إفريقيا أصبحت تنفق الآن على تكاليف خدمة الدين أكثر مما تنفقه على الرعاية الصحية، كما أن المؤسستين الدوليتين أعطتا مجموعة السبع الغنية نحو 100 ضعف ما أعطته لمجموعة الدول الأقل نموا، على الرغم من أن عدد سكان مجموعة السبع نحو 772 مليون نسمة، فى حين أن عدد سكان الدول الأقل نموا نحو 1٫1 مليار نسمة.
التغيرات المناخية مظهر آخر من مظاهر خلل النظام المالى العالمى، لأن كارثة التغيرات المناخية ترجع فى معظمها إلى الدول الصناعية الكبرى، ومجموعة الدول الـ20 الأكثر ثراء وغنى على مستوى العالم.
هذه الدول هى المتسبب الأكبر فى كارثة التغيرات المناخية، وعلى الرغم من ذلك، فإن المتضرر الأكبر هم مجموعة الدول النامية والأقل نموا على مستوى العالم، بينما تكتفى الدول الكبرى الغنية بالوعود التى لا يتم تنفيذها على أرض الواقع للأسف الشديد.
كان «COP 27»، الذى استضافته مصر فى العام الماضى، هو المؤتمر العالمى الأكثر أهمية فى هذا المجال، وحضره أكبر عدد من الزعماء والقادة على مستوى العالم، يتقدمهم الرئيس الأمريكى جو بايدن، ورئيس وزراء بريطانيا ريشى سوناك، والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وغيرهم من قادة دول العالم.
نجحت مصر فى وضع قادة العالم أمام مسئولياتهم، وشهد المؤتمر مناقشات ساخنة، وتم مد عمله يوما إضافيا فى محاولة للتوصل إلى رؤية توافقية فى قضايا التمويل، والتخفيف، والتكيف، والخسائر والأضرار.
نجح المؤتمر فى انتزاع الكثير من المكتسبات، خاصة ما يتعلق بإدراج مبدأ التعويضات والخسائر والأضرار، وكذلك آلية التمويل المناخى، وما يتعلق بها من آليات المتابعة، والحوكمة، والإصلاح.
كان التركيز على ضرورة أن يكون التمويل ميسرا فى مجال المشروعات المتعلقة بمشكلات التغيرات المناخية فى القطاعات المتضررة مثل البنية التحتية والزراعة والمياه، بحيث لا تزيد الفائدة على 1%، وأن تكون هناك فترة سماح لا تقل عن 10 سنوات، وأن تمتد فترة السداد إلى 20 عاما.
المشكلة أن التعهدات التى قطعتها الدول المشاركة فى قمة «جلاسجو» (26 COP)، ومن قبلها قمة باريس، لم يتم الالتزام بمعظمها، ولم يلتزم سوى عدد قليل جدا من الدول بتعهداتها، فى حين لم تف أغلب تلك الدول بالتزاماتها مثل الصين والهند والبرازيل، ودول الاتحاد الأوروبى، وإندونيسيا، وغيرهم من هؤلاء المتسببين بشكل رئيسى فى الكارثة المناخية.
لم تعد أضرار التغيرات المناخية بعيدة، حيث إنها بدأت تضرب بعنف كل دول العالم، وانتشرت مساحات كبيرة من التصحر والجفاف فى العديد من دول العالم، وبات صيف بعض الدول الأوروبية أقرب إلى صيف بعض الدول الإفريقية فى كثيرا من الأيام، وضربت الموجات الحارة كندا وإستراليا وأمريكا، واجتاحت الفيضانات باكستان وإندونيسيا، وغيرهما من دول العالم.
استمرار السير عكس اتجاه التغيرات المناخية يمكن أن يؤدى إلى اختفاء دول بكاملها، وكذلك اختفاء مدن بكاملها مثل شنغهاى فى الصين، والإسكندرية بمصر، وميامى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وغرق الجزر الواقعة فى البحار والمحيطات، وذلك إذا بلغت زيادة درجات الحرارة 4 درجات مئوية، وتجاوزت 1٫5 درجة المقررة.
للأسف حتى الآن فشلت الدول المتقدمة فى الوفاء بتعهداتها التى قطعتها على نفسها فى قمة باريس، والالتزام بتقديم 100 مليار دولار سنويا، لمواجهة المتغيرات المناخية.
خلال قمة باريس الأخيرة، طرح الرئيس عبدالفتاح السيسى رؤية مصر فى هذا الإطار، مشيرا إلى أنه كان من الممكن أن تفى الدول الكبرى بتعهداتها ماليا أو على الأقل من خلال شركاتها، لإقامة مشروعات البنية التحتية داخل دول القارة الإفريقية، وضرب نموذجا بالشركات الفرنسية أو الألمانية أو الصينية. المشكلة أن التعثر فى الالتزام بالتعهدات فاقم المشكلات الاقتصادية للدول النامية والأقل نموا، خاصة فى ظل ظروف جائحة كورونا، ومن بعدها الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
ربما تكون الحالة المصرية هى النموذج الأبرز فى هذا المجال، حيث نجحت مصر فى تقديم نموذج متكامل لمواجهة المشكلات والأزمات المتراكمة، بما فيها مشكلات الأزمات المناخية.
نجحت مصر فى إطلاق برنامج للإصلاح الاقتصادى فى 2016، وسجل الاقتصاد المصرى معدلات نمو مرتفعة، وصلت إلى 6٪، وكان من المتوقع أن تستمر معدلات نمو الاقتصاد المصرى بهذا المعدل، وربما أعلى من ذلك، حتى هبطت جائحة كورونا، ومن بعدها الحرب الروسية ــ الأوكرانية التى فاقمت الأوضاع الاقتصادية العالمية، وأثرت بشكل سلبى على المسارات التى تحققت فيها نجاحات مختلفة.
أعتقد أن قمة باريس، التى عقدت جلستها الختامية أمس الأول، جاءت فى توقيتها الصحيح، لمحاولة علاج الخلل القائم فى نظام التمويل العالمى، وضرورة إيجاد ميثاق جديد للتمويل من أجل تخفيف وطأة الديون عن الدول النامية، خاصة فيما يتعلق بالمشروعات اللازمة لمواجهة التغيرات المناخية.
المهم الآن هو كيفية ترجمة ما جاء فى القمة وبيانها الختامى من أجل محاربة الفقر، وحماية كوكب الأرض، والسير فى المعركتين معا، مع الحفاظ على حق كل دولة فى اختيار طريقة التنمية بها دون إملاء أو ضغوط، وفى إطار احترام سيادة كل طرف وخياراته ونموذجه.
أخيرا.. أتمنى الإنصات إلى صرخة أنطونيو جوتيرتش الذى ندد بعدم عدالة نظام التمويل الدولى الحالى، وضرورة توافر الإرادة السياسية، لتغيير هذا النظام المالى «الجائر» الذى يسمح لدول الاتحاد الأوروبى بنحو 160 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة بها، بينما لا تزيد حصة الدول الإفريقية مجتمعة على 34 مليار دولار، فى أبشع صور التمييز وعدم العدالة، فهل تكون قمة باريس بداية جادة لإصلاح هذا الخلل، وإعلانا جديدا لمستقبل البشرية أم أن وعودها سوف تلحق بوعود مؤتمر باريس الأول، الذى تقرر فيه تخصيص 100 مليار دولار للدول الفقيرة، ولم تتحقق تلك الوعود حتى الآن؟!.