نداء «السلام والاقتصاد» من إفريقيا إلى روسيا
نداء «السلام والاقتصاد» من إفريقيا إلى روسيا
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
القمة الروسية ـ الإفريقية الثانية جاءت فى ظروف مختلفة عن القمة الأولى التى عقدت عام 2019 فى مدينة سوتشى الروسية وترأسها الرئيسان المصرى عبدالفتاح السيسى بصفته رئيس الاتحاد الإفريقى آنذاك والروسى فلاديمير بوتين، وذلك بعد أن دخلت الحرب الروسية ـ الأوكرانية عامها الثانى، وانسحاب روسيا من اتفاقية تصدير الحبوب مؤخرا ورفضها حتى الآن استئناف العمل بها.
إفريقيا هى أكثر المتضررين من الحرب الروسية ـ الأوكرانية بسبب تأثير تلك الحرب على الأمن الغذائى لدول القارة، وكذلك الإضرار باقتصادات الدول الإفريقية، وارتفاع معدلات التضخم نتيجة التأثيرات السلبية لهذه الحرب على الاقتصاد العالمى بشكل عام، وانعكاس ذلك على اقتصادات الدول الإفريقية بشكل خاص.
من هنا جاءت أهمية انعقاد القمة الإفريقية ـ الروسية الثانية، وبما يمكن أن تكون لها من تأثيرات ايجابية على تفعيل المبادرة الإفريقية التى سبق أن أطلقتها الدول الإفريقية من أجل وقف نزيف الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وكذلك فتح حوار مع الجانب الروسى من أجل إعادة روسيا مرة أخرى إلى اتفاقية تصدير الحبوب، وإعادة استئناف العمل بها مرة أخري.
ميزة إفريقيا أنها قارة غير منحازة كما أنها ليست متورطة من قريب أو بعيد فى الصراع الروسى ـ الأوكرانى، لكنها للأسف هى القارة الأكثر تضررا من ذلك النزاع المأساوى، ولذلك فهى ترغب فى إنهائه حقنا لدماء الشعوب، ورغبة من دول القارة الإفريقية فى نشر السلام، وإنهاء النزاع الذى راح ضحيته الآلاف من أبناء الشعبين، الروسى والأوكرانى، بالإضافة إلى إلحاق أضرار بالغة بالاقتصادين الروسى والأوكرانى.
لم تتوقف أضرار الحرب الروسية ـ الأوكرانية عند حدود الدولتين فقط، لكنها امتدت إلى الاقتصاد العالمى بقوة، وألحقت به أضرارا جسيمة ربما لم يشهدها منذ الكساد العالمى العظيم فى ثلاثينيات القرن الماضى، والذى كان هو الكساد الأطول والأعمق والأكثر انتشارا فى القرن العشرين، وكانت بدايته من الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار سوق الأسهم فى أكتوبر 1929 فى يوم الثلاثاء الأسود ثم امتد إلى باقى دول العالم واستمرت تداعياته ما يقرب من 10 أعوام كاملة.
الرئيس عبدالفتاح السيسى أشار فى كلمته أمام الجلسة العامة للقمة الثانية للمنتدى الاقتصادى والإنسانى (الروسى ــ الإفريقى) أمس الأول الجمعة إلى أن القمة الثانية جاءت فى ظروف دولية بالغة التعقيد ومناخ عام يتسم بدرجة عالية من الاستقطاب والتغيرات، مما أثر بالسلب على دول القارة وهدد محددات أمنها وحقوق أجيالها المقبلة.
أراد الرئيس عبدالفتاح السيسى أن يحث الأطراف المتنازعة فى الحرب الروسية ــ الأوكرانية على السلام من خلال النموذج المصرى، موضحا «أن مصر كانت دومًا رائدة وسباقة فى انتهاج مسار السلام.. سلام الأقوياء القائم على الحق والعدل والتوازن، فكان خيارها الإستراتيجى الذى حملت لواء نشر ثقافته، إيمانا منها بقوة المنطق لا منطق القوة، وبأن العالم يتسع للجميع».
رسالة سلام قوية وواضحة من مصر «أم الدنيا» إلى طرفى النزاع (الروسى ــ الأوكرانى)، وإلى كل من يساهم فى تأجيج ذلك الصراع ويغذيه بشكل مباشر أو غير مباشر من أجل إعلاء قوة المنطق، وليس منطق القوة كما يحدث الآن.
ولأن مصر هى قلب وعقل القارة الإفريقية فقد أوضح الرئيس أن الدول الإفريقية دول ذات سيادة وإرادة مستقلة تنشد السلم والأمن الدوليين، وترفض مبدأ الاستقطاب فى الصراعات القائمة، وتستهدف تحقيق مصلحة شعوبها فى التنمية المستدامة.
كذلك أوضح رؤية مصر فى التسوية السلمية للنزاعات الدولية التى تقوم على الحفاظ على سيادة الدول، ووحدة أراضيها، وضرورة التعامل مع جذور ومسببات الأزمات، خاصة تلك المتعلقة بمحددات الأمن القومى للدول، وضرورة الامتناع عن توظيف العقوبات الاقتصادية خارج آليات النظام الدولى المتعدد الأطراف، مطالباً بالتوصل إلى حل توافقى بشأن اتفاقية تصدير الحبوب يأخذ فى الاعتبار مطالب جميع الأطراف ومصالحهم، ويضع حدا لاستقرار أسواق الحبوب ويساهم فى الحد من ارتفاع أسعارها.
مؤخرا تنامى الدور الاقتصادى الروسى فى إفريقيا وأصبحت روسيا شريكا اقتصاديا وتجاريا رئيسيا للدول الإفريقية حيث بلغ حجم التبادل التجارى بين روسيا وإفريقيا عام 2022 حوالى 18 مليار دولار، ورغم اندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية فقد زاد حجم التبادل التجارى خلال النصف الأول من العام الحالى بنحو 35%، وامتدت مجالات التعاون بين روسيا وإفريقيا إلى الطاقة، والزراعة، والصناعة، وإمدادات السلاح، والتقنيات العسكرية، ومن هنا فإن روسيا ترى فى إفريقيا «شريكا مهماً وأساسيا» وتدعم القضايا الإفريقية العادلة، وحق دول القارة فى التنمية المستدامة ومساندة الاتحاد الإفريقى للانضمام إلى مجموعة دول العشرين على غرار منظمة الاتحاد الأوروبى.
على الجانب المقابل فإن الاتحاد الإفريقى يضم 55 دولة وتبلغ مساحته ما يقرب من 30 مليون كيلو متر مربع، في حين بلغ عدد السكان حوالى 1٫2 مليار نسمة، مما يجعل القارة الإفريقية ثانى أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان بعد قارة آسيا.
فى أثناء رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية من النيجر لتدخل حيز التنفيذ فى عام 2019 خلال القمة الإفريقية الاستثنائية التى عقدت هناك مما جعل إفريقيا من أكبر الأسواق الواعدة والناشئة الجاذبة للاستثمارات الخارجية بعد أن أصبحت إفريقيا أكبر منطقة للتجارة الحرة على مستوى العالم.
تحولت أنظار العالم إلى إفريقيا، وعقدت العديد من القمم الأمريكية والأوروبية والصينية واليابانية والروسية مع الاتحاد الإفريقى بهدف تدعيم الشراكات الاقتصادية والسياسية مع دول الاتحاد، وكان آخرها تلك القمة الروسية ـ الإفريقية التى انتهت أعمالها أمس الأول الجمعة والتى استهدفت تدعيم نشأة نظام عالمى جديد متعدد الاقطاب، وإيجاد علاقات إستراتيجية مع دول القارة، إلى جوار مساندة روسيا لآمال الشعوب الإفريقية فى التنمية المستدامة، وأن يكون للاتحاد الإفريقى مكان دائم فى مجلس الأمن، وعضوية دائمة فى مجموعة العشرين من أجل إيصال صوت إفريقيا للعالم خاصة فى القضايا ذات التأثير المباشر على مصالحها أو فى تلك القضايا التى تمس الأمن والسلم الدوليين، وتؤثر بالضرورة على مصالح الدول الإفريقية وحقوق الشعوب الإفريقية فى التنمية وحل مشكلات الديون والأعباء المتزايدة التى باتت تثقل كاهل اقتصادات الدول الإفريقية بشكل متزايد وخطير.
أعتقد أن القمة الإفريقية ـ الروسية جاءت فى توقيتها الصحيح، وأتمنى أن تكون مخرجاتها قادرة على فتح نافذة فى جدار الحرب الروسية ـ الأوكرانية السميك، لتكون بداية لكبح جماح التصعيد المتنامى وصولا إلى وقف القتال والدخول فى مفاوضات جادة ومباشرة للتوصل إلى سلام حقيقى ودائم فى تلك الأزمة التى لاتزال تهدد استقرار العالم وسلامته حتى الآن.