السودان بين «الكارثة الإنسانية الكاملة» و«مخاطر التفكك»
السودان بين «الكارثة الإنسانية الكاملة» و«مخاطر التفكك»
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
بعد مرور نحو 16 أسبوعا على الصراع فى السودان، حذر إديم وسورنو، مدير العمليات فى مكتب تنسيق الشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، من انزلاق السودان إلى «كارثة إنسانية كاملة»، بحسب وصفه، بعد أن خرجت ٨٠٪ من المستشفيات هناك من الخدمة، وتشريد أكثر من 4 ملايين شخص داخل السودان، وعبر الحدود، وفى الدول المجاورة .
4 ملايين مشرد يواجهون مخاطر شديدة بسبب سوء المعاملة، والسرقة، والمضايقات، والاغتصاب، والقتل فى أثناء تحركاتهم، للبحث عن مناطق أكثر أمانا.
الأخطر من ذلك هو تعاظم مخاطر تفكك الدولة السودانية، بما يؤدى إلى تفاقم حجم الكارثة الإنسانية، ومضاعفة أعداد المتضررين، وتحوّل السودان إلى دولة فاشلة، ومفتتة إلى عدة دويلات.
يوم الأربعاء الماضى عقد مجلس الأمن جلسة، ، ناقش فيها الأوضاع فى السودان، واستمع إلى إحاطة من مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة لشئون إفريقيا، مارثا أما أكيا بوبى، التى نددت باتساع نطاق القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ودخول القتال أسبوعه الـ16 من دون أن يتمكن أى طرف من حسم المعركة أو تحقيق نصر إستراتيجى أو أى مكاسب رئيسية.
هى إذن كارثة ضخمة، بكل ما تحمله الألفاظ من معان، تعيشها دولة السودان الشقيق، ويدفع ثمنها الشعب السودانى بكل طوائفه وفئاته وأعراقه، بعد أن انهار الاقتصاد السودانى إلى أدنى مستوياته، وحرم الموظفون من رواتبهم للشهر الرابع على التوالى، وانهارت الخدمات الطبية، ووصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، وارتفعت الأسعار بشكل جنونى، واختفت السلع، وأغلقت المدارس أبوابها، وأصبح الشعب السودانى إما قيد الإقامة الجبرية فى المنازل، أو مشردا، للبحث عن مكان آمن داخل السودان أو خارجه.
حتى هؤلاء المشردون الباحثون عن الأمان المفقود لم ينجوا من الكوارث والأزمات الإضافية التى لحقت بهم نتيجة تعرضهم للسرقات، والقتل، وسوء المعاملة، والابتزاز، وتعرض السيدات للإيذاء الجنسى والاغتصاب على نطاق واسع.
أعتقد أن أكثر المناطق المتضررة هى العاصمة بمدنها الثلاث «الخرطوم، والخرطوم بحرى، وأم درمان»، التى يسكنها أكثر من 8 ملايين نسمة، يشكّلون نحو 25٪ من عدد سكان السودان.
أما إقليم دارفور فهو ثانى الأقاليم المتضررة، والذى تمتد حدوده من ليبيا شمالا إلى تشاد غربا، وإفريقيا الوسطى، وجنوب السودان جنوبا، ويبلغ عدد سكانه أكثر من 7 ملايين نسمة، وتصل مساحته إلى أكثر من نصف مليون كم2 (503.18 كيلو متر مربع).
موارد أقليم دارفور الطبيعية الضخمة من بترول ويورانيوم وخامات متنوعة تحولت من نعمة إلى لعنة تطارد الإقليم، وجعلته مرتعا للمؤامرات ومطمعا للطامعين والمتأمرين من الداخل والخارج ، فى محاولة للسيطرة على تلك الثروات الطبيعية الهائلة، مما أدى الى اندلاع العديد من المعارك والحروب، والتى أسفرت عن تشريد أكثر من مليونى مواطن نتيجة الاقتتال بين القبائل بعضهم البعض من جهة، أو بين بعض الجماعات المسلحة والدولة فى عصر الرئيس السابق عمر البشير من جهة أخرى.
اندلاع القتال بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع مؤخرا أدى إلى اشتعال الأوضاع من جديد فى إقليم دارفور، ووقوع انتهاكات خطيرة فى ولاية غرب دارفور، وعاصمتها «الجنينة»، وصلت إلى جرائم ممنهجة ومنظمة ضد المدنيين، شملت أعمال نهب واغتصاب وقتل، وهدم منازل، وكل أنواع الجرائم الأخرى.
تحرك مجلس الأمن، الأربعاء الماضى، سبقه تحرك مجموعة دول الجوار السبع، الاثنين الماضى، فى العاصمة التشادية (إنجامينا)، ضمن الآليات التى حددتها قمة دول الجوار التى عقدت فى القاهرة الشهر الماضى.
خلال الاجتماع الوزارى لدول الجوار، رسم سامح شكرى، وزير الخارجية، الصورة بكامل أبعادها أمام الحضور، مؤكدا سوء الأوضاع فى السودان، ومشيرا إلى وجود «ضبابية تامة فى مسار العملية السياسية هناك»، وعدم وجود أى ملامح لذلك، ومطالبا جميع الأطراف بضرورة التحلى بالمسئولية، والتكاتف مع دول الجوار، لكى تعود الحياة إلى طبيعتها هناك.
طالب «شكرى» بضرورة تضافر الجهود، لإقناع طرفى النزاع بالوقف الفورى للاقتتال من أجل إنقاذ ما تبقى من مقدرات السودان وشعبه.
المؤكد أنه لا يوجد تعارض بين اجتماعات مجلس الأمن واجتماعات دول الجوار، حيث بلغت المأساة ذروتها فى السودان، وتحتاج إلى كل الجهود المخلصة الدولية والإقليمية من أجل الوقف الفورى للقتال، والبدء فى إجراء عملية سياسية شاملة تنقذ الدولة السودانية من مخاطر «التفكك»، وتنقذ كذلك الشعب السودانى من أسوأ كارثة إنسانية فى تاريخه.
فى الشهر الماضى، نجحت مصر فى عقد أول قمة لدول الجوار السبع فى القاهرة، فى إطار حرصها على حقن دماء الشعب السودانى، وحفظ مقدراته، والحفاظ على وحدة أراضى السودان.
نجحت القمة فى لمّ شمل دول الجوار على مجموعة من المبادئ المهمة والضرورية التى تم الاتفاق عليها، وأهمها رفض «تدويل» الأزمة، وتأكيد فكرة الدولة الوطنية، وضرورة الوقف الفورى للقتال، وإطلاق حوار شامل لكل الأطراف السودانية من أجل بدء عملية سياسية شاملة تُلبى طموحات الشعب السودانى.
لم تكتف مصر بذلك، بل إنها نجحت فى استضافة قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، وشارك فى هذا الاجتماع 45 من قادة القوى السياسية المدنية السودانية، بهدف تنسيق المواقف، والضغط المجتمعى من أجل إنهاء الحرب، ووقف الاقتتال.
أعتقد أن المشكلة الأكبر فى السودان الآن هى تفاقم الأوضاع بشكل سريع، وارتفاع حدة المعاناة الإنسانية بعد تدهور الأوضاع المعيشية والصحية والأمنية، حيث حذرت منظمة الصحة العالمية من ازدياد مخاطر انتشار الأوبئة والأمراض بين السودانيين، خاصة الملاريا، وحمى الضنك، والكوليرا، والحصبة، وشلل الأطفال.
بيانات منظمة الصحة العالمية توقعت إصابة 39٪ من عدد سكان السودان بأمراض سوء التغذية، بعد أن وقع ما يقرب من 4 ملايين طفل وسيدة من الحوامل والمرضعات فريسة لسوء التغذية الحاد، الذى نتجت عنه مضاعفات طبية خطيرة تحتاج إلى رعاية متخصصة غير متوافرة هناك.
لم تتوقف التأثيرات السلبية عند حدود القطاع الصحى فقط، لكنها امتدت إلى القطاع التعليمى، بعد أن عصّف الصراع فى السودان بقطاع التعليم، وتسبب فى إغلاق المدارس والجامعات، وإلغاء الامتحانات، وتحويل المدارس إلى ملاجئ للنازحين، مما دعا وزارة التربية والتعليم السودانية إلى إلغاء معظم امتحانات نهاية العام فى المناطق المتضررة، ليصبح السودان من أسوأ ٤ بلدان على مستوى العالم فى التعليم، ويصبح مصنفا مع تلك الدول التى يواجه فيها التعليم «خطرا شديدا».
هكذا تدهورت الأوضاع هناك بشدة من الصحة إلى التعليم، إلى غياب الأمن، وانتشار السرقات وأعمال النهب والقتل والاغتصاب، ومحاصرة المدنيين، والفارين إلى مناطق أكثر أمانا، وكذلك عدم قدرة الدولة على دفع الرواتب والأجور للعاملين وأصحاب المعاشات، مما ساهم فى زيادة اعداد المشردين إلى ما يقرب من ٤ ملايين، وانزلاق الشعب السودانى كله إلى «كارثة إنسانية كاملة» تهدد مستقبله الوجودى.
انعكس كل ذلك على تزايد مخاطر تفكك الدولة السودانية، وتحولها إلى دولة فاشلة كما حدث فى مرحلة سابقة فى الصومال، وتفتيتها إلى دويلات متصارعة ومتحاربة إلى ما لا نهاية.
للأسف الشديد، هناك أطراف إقليمية ودولية تغذى الصراع، لإطالة أمده، وعدم تمكين الجيش السودانى من فرض سيطرة الدولة على كامل الأراضى والمقدرات السودانية، لكن يبقى الأمر بين السودانيين وأطراف الصراع أنفسهم، للاستماع إلى صوت العقل قبل فوات الأوان، وقبل أن تتحول المخاوف من تفكك الدولة إلى واقع ـ لا قدر الله ـ إذا استمر هذا الصراع العبثى، وعدم الإنصات إلى أصوات العقل والحكمة لمصلحة كل الأطراف.