الذكريات المؤلمة من «فريدة» إلى «الروضة»!
الذكريات المؤلمة من «فريدة» إلى «الروضة»!
بقلم ــ عبدالمحسن سلامة
فى أثناء زيارتى أحد الأصدقاء فى مدينة الشروق، الأسبوع الماضى، وقعت عيناى على لافتة أحد الشوارع التى مررت بها فى طريقى هناك، تحمل اسم «شارع فريدة»، فقلت فى نفسى: ربما يكون اسم الشارع يرجع إلى الملكة فريدة زوجة الملك فاروق الأول، والتى تزوجها فى 1938، ثم وقع الطلاق بينهما فى 1948، بعد عشر سنوات زواج، وكان طلاقهما من أسباب تراجع شعبية الملك حينذاك .
سألت صديقى المستشار الذى كان يرافقنى فى تلك الزيارة، وأحد سكان المدينة، عن سبب تسمية الشارع هذا الاسم، وهل يعود إلى الملكة فريدة؟!.
تغير وجه المستشار قليلا، وبنبرة لا تخلو من الحزن نبهنى إلى أن سرعة السيارة لم تجعلنى أقرأ تفاصيل لافتة الشارع كاملة قائلا:
هل نسيت بهذه السرعة حادث الطفلة «فريدة» الذى هز الرأى العام، بعد قتلها بالرصاص الطائش فى أثناء محاولة السطو على سيارة والدها المهندس أحمد داود فى أثناء سيره بصحبة طفليه «فريدة» و«ياسين»، وإطلاق ما يقرب من 20 طلقة على السيارة، تسبب بعضها فى مقتل طفلته «فريدة»، وأصيب هو الآخر فى فخذه، ونجا ابنه ياسين بأعجوبة.
كانت «فريدة» فى ذلك الوقت طفلة فى عمر الزهور، لا يتعدى عمرها عامين ونصف العام.لم يترك الجناة السيارة إلا عندما اصطدمت بحاجز خرسانى، وأدى ذلك إلى تحويل اتجاه السيارة إلى الاتجاه العكسى من الطريق، ليصبح المتهمون فى اتجاه والمجنى عليهم فى اتجاه آخر، ويتمكن الوالد من الهرب. لكن، للأسف، فشلت محاولات إنقاذ «فريدة»، ولقت مصرعها على الفور.
كلمات صديقى أعادتنى إلى الوراء قليلا، لأغرق فى تفاصيل ذكريات مؤلمة عشناها جميعا فى كل مدن وقرى مصر بلا استثناء من الإسكندرية حتى أسوان، ومن سيناء إلى قلب الدلتا.
بعد يناير 2011 تحولت الحياة فى مصر إلى كابوس «خانق»، ولم يكن أكثر المتشائمين يتخيل أن تتحول شوارع مصر، التى تعج بالحياة ليل نهار، إلى شوارع تسكنها الأشباح، وتسيطر عليها مجموعات من قطاع الطرق والجماعات الإرهابية، خاصة حينما اختفت الشرطة من الشوارع، وأصبحت الشوارع تحت رحمة الجماعات الإجرامية والإرهابية على السواء، واضطر المواطنون إلى المبيت فى مداخل المنازل والعمارات السكنية، خشية اقتحام منازلهم فى أثناء ساعات الليل أو حتى فى وضح النهار.
تحولت الشوارع إلى ممالك خاصة للجماعات والعصابات الإجرامية والإرهابية، ونصبوا أكمنة ولجان تفتيش، ووضعوا «إطارات الكاوتشوك» والطوب والرمال، ليتحكموا فى خطوط السير، ويسرقوا السيارات والأغراض الشخصية.
تذكرت صديقى المهندس الذى تمت سرقة سيارته مرتين متتاليتين، وفى كل مرة كان يضطر إلى دفع الإتاوة ليستردها، واضطر فى النهاية إلى عدم استعمالها، حتى هدأت الأمور قليلا.
انتشرت تلك الحوادث الإجرامية فى القاهرة والمحافظات، وفى الشروق والعبور وأكتوبر، وكل المدن الجديدة والقديمة بلا استثناء، وازدادت حدتها فى القرى والمناطق النائية التى كانت نهبا مستباحا لتلك العصابات الإجرامية والإرهابية بلا استثناء.
استمرت تلك الفوضى الكارثية ما يقرب من خمس سنوات، حتى تماسكت مؤسسات الدولة المصرية من جديد، وبدأت تسترد عافيتها رويدا رويدا.
بدأت حملة ضخمة، لمطاردة الهاربين من السجون، والمحكوم عليهم بأحكام جنائية الذين استغلوا الفوضى التى نشبت عقب قيام ثورة 25 يناير، وفروا هاربين، ليقيموا ممالكهم الإجرامية الخاصة فى كل مكان، وكانت معركة «حامية الوطيس» بين عتاة الإجرام وبين القوات المسلحة التى نزلت، لتساند الشرطة المصرية وتدعمها، حتى تجاوزت ما كانت تعانيه من مشكلات بعد 25 يناير.
نجحت الشرطة المصرية والقوات المسلحة فى القبض على «أباطرة الإجرام»، وإعادتهم إلى السجون أو قتلهم فى أثناء المطاردات ومحاولاتهم الهرب والاشتباك مع حملات الشرطة والجيش.
كان الحادث الذى راحت ضحيته الطفلة «فريدة» نموذجا فجا لحوادث الجرائم الجنائية والبلطجة التى تضرر منها جموع الشعب المصرى فى طول مصر وعرضها، وأظهرت له مشاهد لم يكن أحد يتخيلها فى أسوأ سيناريوهات «الكوابيس والأحلام المزعجة».
كانت المعركة التى خاضتها القوات المسلحة والشرطة المصرية ثنائية الاتجاه: الأول ضد الأعمال الإجرامية والجنائية والبلطجة، حتى نجحت القوات المسلحة والشرطة فى بسط نفوذها، وإعادة الأمن والأمان إلى الشارع المصرى مرة أخرى.
أما الجانب الآخر، فكانت هناك معركة أضخم وأكثر شراسة ضد الإرهاب الأسود الذى انتعش وترعرع على مدى أكثر من عشر سنوات كاملة، حيث حاولت عناصره فرض حلمهم الأسود، ورغبتهم المجنونة فى نقل تجربتهم فى العراق وسوريا إلى مصر، وإقامة ولايات داعشية لهم، خاصة فى سيناء.
كانت معركة حامية الوطيس، وربما كانت أكثر شراسة وعنفا من الحروب النظامية التى خاضتها القوات المسلحة فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، لأن الحروب النظامية واضحة المعالم و«القوام» بعكس الحرب على الإرهاب التى تحارب فيها القوات المسلحة والشرطة خفافيش ظلام يلتحفون بالدين، ويتخفون وسط الأهالى، ويستقطبون المخدوعين والموهومين من الفئات المختلفة.
لم يكد يمر أسبوع خلال السنوات الخمس الأولى بعد ثورة يناير 2011 إلا وكنا نصحو فيه على وقع هجوم انتحارى وانفجارات وضحايا فى سيناء أو الدلتا أو الإسكندرية، أو غيرها من المناطق. لا فرق فى ذلك بين المنشآت المدنية أو الدينية أو العسكرية أو الحكومية أو الخاصة أو الأهلية أو العلمية أو الآثرية.
كان الهجوم الأكثر ضراوة وشراسة على الإطلاق هو حادث مسجد «الروضة»، الذى وقع يوم الجمعة الموافق 24 نوفمبر 2017، فى أثناء أداء المصلين شعائر صلاة الجمعة، بعد أن زرعت مجموعة إرهابية من التكفيريين عبوتين ناسفتين داخل المسجد، ثم هاجموا المصلين بالقذائف الصاروخية من نوع «آر. بى. جي».
لم يكتف مصاصو الدماء من الإرهابيين بما فعلوه، بل استهدفوا باقى المصلين الفارين من المسجد بالرشاشات والبنادق الآلية.
ارتفع عدد ضحايا ذلك الهجوم الوحشى إلى 305 شهداء، وإصابة العشرات، مما جعل ذلك الحادث هو ثانى أكبر عمل إرهابى على مستوى العالم، بعد أحداث 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة الأمريكية.
حادث الروضة كان ذروة الحوادث الإرهابية مثلما كان حادث «فريدة» هو ذروة الحوادث الجنائية، وبعدها أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى العملية الشاملة، لتطهير كل شبر من الأراضى المصرية من الإرهابيين، واستئصالهم إلى غير رجعة.
مثلما نجحت القوات المسلحة والشرطة فى إعادة الأمن والأمان إلى الشارع المصرى، وقطعت دابر البلطجية وقطاع الطرق إلى غير رجعة، وأعادت المحكوم عليهم إلى السجون، لملاقاة مصيرهم المحتوم، نجحت العملية الشاملة فى تجفيف منابع الإرهاب، وتقطيع «أوصال» الإرهابيين، لينتهى الإرهاب المنظم إلى غير رجعة، والذى كان قد وصل إلى رقم قياسى فى 2015 بإجمالى عدد عمليات 594 عملية إرهابية، ثم تراجع إلى 199 عملية إرهابية فى 2016، وفى 2017 بلغ 50 عملية، من بينها حادث مسجد «الروضة»، وسجل 8عمليات فى 2018، ثم تراجعت الأعداد إلى عمليتين فى 2019، لتصل إلى «الصفر» فى العام الماضى بفضل الله.
لم يعد هناك إرهاب منظم، أو جماعات إرهابية منظمة تعمل وتخطط، كما كان يحدث قبل ذلك، لإقامة ولايات داعشية، وإن كان الإرهاب مازال يعشش فى عقول البعض من الأفراد أو الخلايا النائمة التى تتحين الفرصة للانقضاض من جديد.
تكلفة باهظة دفعتها الدولة المصرية منذ 2011، وصلت إلى أكثر من 400 مليار دولار حجم الخسائر التى لحقت بالاقتصاد المصرى بسبب أحداث العنف والبلطجة والإرهاب والفوضى بكل الأشكال والألوان، منها ما يقرب من 84 مليار دولار تكلفة 84 شهرا فى مقاومة الأعمال الإرهابية وحدها.
الآن بفضل الله أولا، ثم دور القوات المسلحة والشرطة، تم استئصال الإرهاب والإجرام إلى غير رجعة، وأصبحت الحوادث الإرهابية والإجرامية المنظمة مجرد ذكريات مؤلمة من زمن فات، لكن من المهم ألا تختلط الأوراق، وتظل قضية الحفاظ على الدولة ومقدراتها وكياناتها هى القضية الأهم فى نفس وعقل كل مصرى، حتى تظل حادثتا «فريدة» فى الشروق، و«الروضة» فى شمال سيناء، مجرد ذكريات لحوادث مؤلمة لن تعود أبدا ــ إن شاء الله.