«هموم وآمال» بين عام «مضى» وعام «مقبل»

«هموم وآمال» بين عام «مضى» وعام «مقبل»

بقلم ــ ‬عبدالمحسن‭ ‬سلامة

ربما يكون 2023 هو العام الأكثر دموية فى القرن الحادى والعشرين، خاصة فى المنطقة العربية والشرق الأوسط، حيث كانت بدايته، وبالتحديد فى السادس من فبراير، زلازل مدمرة اجتاحت سوريا وتركيا، ونتج عنها أكثر من 50 ألف قتيل، وأضعافهم من المصابين، ثم كانت نهايته المأساوية فى قطاع غزة بتلك الحرب التى لاتزال تدور رحاها حتى الآن، والتى حصدت أكثر من 21 ألف قتيل فلسطينى، وأكثر من 50 ألف مصاب، وسط صمت وعجز دولى، وشراكة أمريكية كاملة فى أبشع مذبحة إنسانية يشهدها العالم فى التاريخ الحديث.

 

بين هذا وذاك انفجرت الأوضاع فى السودان بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع، بعد شراكة طويلة وممتدة بينهما، إلا أن هذه الشراكة انقلبت إلى نزاع مسلح فى أبريل الماضى، ولايزال النزاع مستمرا، ما أدى إلى مصرع أكثر من 10 آلاف، وتشريد الملايين من أبناء الشعب السودانى، بحثا عن المناطق الآمنة داخل السودان وخارجه.

هذا هو حال المنطقة فى هذا العام، الذى يذهب إلى حال سبيله اليوم غير مأسوف عليه، وبالضرورة ستتداخل الأحداث وتتشابك فى العام الجديد، الذى يبدأ مسيرته غدا على أمل أن تنتهى تلك الأحداث المأساوية التى لاتزال مستمرة، خاصة فى غزة والسودان، ليعود الأمن والأمان المفقود إلى سكان غزة والسودان، ويعود الاستقرار إلى المنطقة قبل أن تتحول إلى كرة لهب تنشر النيران فى المنطقة كلها، وتمتد آثارها إلى كل دول العالم.

المؤكد أن هناك علاقة وطيدة بين البيت والحى، فلا يمكن أن ينفصل البيت عن محيطه المجاور فى الحى القابع فيه، والحال نفسه ما بين الدولة والإقليم، فلا يمكن أن تكون هناك دولة بمعزل عما يحدث فى إقليمها.

 

 

صحيح قد تختلف درجات التأثير والتأثر، وحجم المشكلات المترتبة على ذلك، لكنه فى كل الأحوال هناك علاقة مؤكدة بين أى دولة وإقليمها المحيط بها، وهو ما يحدث الآن فى المنطقة العربية على وجه التحديد.

للأسف الشديد، فإن مصر بحكم موقعها الجغرافى ومكانها ومكانتها الإقليمية تقع فى قلب الأحداث، وتحيط بها دائرة النيران من كل جانب، بدءا من الجنوب فى السودان، مرورا بالغرب فى ليبيا، وانتهاء بالشمال الشرقى فى فلسطين.

تقريبا كل الحدود الجغرافية السكانية مشتعلة، حيث تمتد الحدود بين مصر والسودان بطول 1280 كم، ولهذا، فإن مصر هى المتضرر الأكبر من الأزمة السودانية الأخيرة، خاصة فى مجال استقبال اللاجئين والنازحين إليها من أبناء الشعب السودانى الذين تجاوزوا أكثر من 5 ملايين لاجئ سودانى فى مصر، من شمال وجنوب السودان، بلا استثناء.

أما الحدود الغربية مع ليبيا فهى تمتد بطول 1115 كم، لتكون ثانى أكبر حدود بعد السودان، ولاتزال الحالة الليبية تراوح مكانها على الرغم من مرور أكثر من 12 عاما على سقوط نظام القذافى حتى الآن، وانفصال الدولة الليبية إلى جسد ورأسين: واحدة بطرابلس العاصمة، والثانية فى بنغازى.

أسقط الشعب الليبى نظام العقيد معمر القذافى فى أكتوبر 2011، أى منذ أكثر من 12 عاما، لكن للأسف الشديد لم يستطع إيجاد البديل، بعد أن دخلت الأيادى الأجنبية الخبيثة تعيث فسادا وخرابا، لتنقسم الدولة الليبية إلى جسد ورأسين، ولايزال البحث جاريا عن مخرج لهذا الوضع غير المسبوق فى الدولة الليبية، وهو ما أسهم فى إضعافها وانسحابها إقليميا ودوليا، وأضعف قدراتها فى مواجهة الأزمات والكوارث، كما حدث فى فيضانات «درنة» نتيجة اعصار «دانيال» التى ضربت العديد من المدن الليبية، لكن مدينة «درنة» كانت الأكثر تضررا، حيث بلغ عدد ضحايا الإعصار أكثر من 11 ألف شخص، فى حين اختفت أحياء بكاملها من المدينة بسبب بطء التعامل مع تلك الكارثة الطبيعية.

أما الحد الجغرافى السكانى الثالث فهو فى الشمال الشرقى، حيث تقع فلسطين وإسرائيل بطول 265 كم، وعلى الرغم من أن هذا الحد هو الأقل فى المساحة، فإنه «الأخطر» و«الأسخن» دائما بعد زرع إسرائيل فى المنطقة منذ 1948.

منذ ذلك العام، وعلى مدى 75 عاما، ظلت الحدود الشمالية الشرقية مشتعلة طوال الوقت، وحتى بعد توقيع اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، ظلت هذه الحدود متوترة دائما بسبب استمرار احتلال إسرائيل الأراضى الفلسطينية، وتعطيلها قيام دولة فلسطينية طبقا لمقررات الشرعية الدولية، ومبادرات السلام العربية، وقرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة ذات الصلة التى أقرت بحق الشعب الفلسطينى فى قيام دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

مشكلة إسرائيل أنها دولة لا تؤمن بالسلام، وترفعه فقط كشعار مؤقت، لخداع الرأى العام العالمى أو لتمرير جريمة كبرى، كما يحدث الآن فى غزة.

ربما تكون ميزة أحداث غزة الأخيرة أنها أسقطت ورقة التوت عن المخططات الإسرائيلية الشيطانية التى تعتمد على الأساطير الدينية، والأطماع الاستعمارية، والحماية الأمريكية، لتنفيذ مخطط إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وتغيير خريطة الشرق الأوسط طبقا لهذا المخطط الشيطانى، بحيث تكون فيه السيادة والكلمة العليا لدولة إسرائيل، ويعامل فيه العرب كشعوب من الدرجة الثانية، لخدمة الأغراض الإسرائيلية المدعومة أمريكيا وغربيا، التى بدأت بـ«وعد بلفور» الشهير فى 1917، ثم قيام دولة إسرائيل فى 1948، والآن تدور أحدث فصولها فى غزة، فى محاولة مستميتة لتهجير سكان القطاع، وإخلائه من سكانه، تمهيدا لزرعه بالمستوطنات اليهودية الاستعمارية، ثم الانتقال بعد ذلك إلى الضفة الغربية، وإنهاء عصر السلطة الوطنية الفلسطينية هناك، وتكرار سيناريو غزة فى حال نجاحه، لتنفرد إسرائيل بالأراضى الفلسطينية كاملة من النهر إلى البحر ضمن مراحل إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.

وسط كل تلك الأحداث الصعبة والمعقدة، وعلى الرغم من العلاقة الوطيدة بين البيت والحى، وبين الدولة والإقليم، كان «الثبات المصرى» أبرز ظواهر 2023، ما يعطى طاقة أمل كبيرة فى إمكانية تجاوز تلك الأزمات المشتعلة فى العام الجديد 2024.

الثبات المصرى، والاستقرار والتعامل الحكيم والقوى، كان أبرز سمات الدولة المصرية فى العام المنصرم (2023)، وظهر الالتحام قويا وواضحا بين القيادة والشعب فى الانتخابات الرئاسية لـ2024 ، التى جرت أخيرا، وأعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات نتائجها خلال الأيام القليلة الماضية بفوز الرئيس عبدالفتاح السيسى بولاية جديدة تمتد من 2024 إلى 2030 .

قوة مصر ومعدن شعبها، والتناغم بين مكوناتها، ظهر جليا فى تلك الانتخابات التى سجلت أعلى معدل مشاركة فى تاريخ الانتخابات الرئاسية المباشرة وغير المباشرة، بعد أن سجلت (66٫8٪)، ليكون ذلك بمثابة رسالة قوية وواضحة بقدرة مصر على تحدى الظروف الإقليمية المعقدة المحيطة بها، التى تتداخل فيها عناصر المؤامرة، والأطماع الأجنبية، والمخططات الصهيونية من أجل أن تظل المنطقة كلها «غارقة» فى المشكلات، والتحديات الداخلية والخارجية.

نجاح الشعب المصرى فى نهاية هذا العام، والوقوف صفا واحدا على قلب رجل واحد، أكدا قدرة مصر على القيام بدورها الإقليمى والعالمى، والانخراط بقوة فى العام المقبل، لوقف التدهور الحاد فى الإقليم الذى ظهر فى العام المنصرم 2023.

المؤكد أن دروس التاريخ لا تكذب، وليست لها علاقة بوجهات النظر، وبنظرة فاحصة ومتعمقة على التاريخ، نجد أن القاهرة هى التى انطلقت منها جيوش صلاح الدين الأيوبى، للقضاء على الصليبيين فى «حطين»، وتحرير بيت المقدس، وبعدها بما يقرب من 73 عاما، انطلقت جيوش سيف الدين قطز من الصالحية فى الشرقية، لإبادة التتار، وهزيمتهم فى «عين جالوت»، ثم أخيرا فى 1973 انطلق الجيش المصرى فى عصر الزعيم الراحل أنور السادات، ليضرب بقوة فى ٦ أكتوبر، وينهى أسطورة «الجيش الذى لا يقهر»، ويعيد التوازن الذى كان مفقودا إلى المنطقة، ويفتح باب السلام والأمل الذى لاتزال إسرائيل تسعى جاهدة إلى إغلاقه.

طوال تلك الحروب أو غيرها لم يعتد الجيش المصرى، ولم يبادر بالعدوان، ودائما كان جيشا رشيدا، كما يؤكد الرئيس عبدالفتاح السيسى، القائد الأعلى للقوات المسلحة، فهو جيش يحمى ولا يعتدى، وقادر على حماية الأمن القومى المصرى، وأبعاده الإستراتيجية فى مختلف الجهات والجبهات.

أتمنى أن يعيد العام الجديد الرشد إلى العالم من أجل عودة السلام والاستقرار من جديد إلى المنطقة، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، ومحاسبة المعتدين، وتنتهى الأزمات والصراعات فى المناطق العربية المشتعلة بالسودان واليمن وليبيا، وقبل كل ذلك وبعده فى فلسطين، قضية العرب الأولى، ورمز كرامتهم وعزتهم.

Back to Top