الأزمة الاقتصادية على مائدة الحوار الوطنى
أعتقد أن هناك بوادر كثيرة تشير إلى بدء الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية، حيث شهدت الأيام الماضية مباحثات ماراثونية مع بعثة صندوق النقد، التى مددت فترة زيارتها لمصر، لإنهاء اتفاق جديد بشروط أفضل، ما يعنى الثقة الدولية فى الاقتصاد المصرى، وما يستتبعه من تدفق محتمل فى مصادر العملة الصعبة، بما يسهم فى إعادة التوازن الطبيعى فى العرض والطلب بين الدولار والجنيه.
أيضا هناك أحاديث كثيرة عن صفقات استثمارية ضخمة يجرى تجهيزها، لتوقيعها خلال الأيام القليلة المقبلة بعوائد تصل إلى أكثر من 22 مليار دولار أو ما يزيد على ذلك.
هذه المؤشرات وغيرها تؤكد جدية الدولة فى مواجهة أزمة الدولار، وشح العملة الأجنبية، بالإضافة إلى ما تقوم به الدولة من مطاردات ضخمة للمضاربين فى أسواق الذهب والعملات الأجنبية، واتخاذ ما يلزم تجاههم من إجراءات قانونية صارمة.
ربما تكون هذه الحلول تدخل ضمن حزمة من الحلول قصيرة الأجل، لكنها تفتح الباب واسعا أمام استقرار الأسواق كبداية طبيعية لعودة تدفق الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وعودة مصادر العملة الأجنبية، وأهمها تحويلات المصريين بالخارج، إلى مسارها الطبيعى داخل القطاع المصرفى.
للأسف الشديد هناك من استغل الأزمة الاقتصادية أسوأ استغلال ممكن، خاصة بعض تجار الجملة والمضاربين فى مختلف القطاعات، بدءا من مواد البناء ومرورا بقطاع السيارات والموبايلات، وانتهاء بقطاع السلع الغذائية والسجائر، وغيرها من القطاعات.
هؤلاء تربحوا المليارات فى عدة أيام بحسب حجم المخزون الموجود داخل أى قطاع من تلك القطاعات.
أتمنى أن يكون هؤلاء تحت أعين الحكومة فى إطار الحلول قصيرة الأجل من خلال مراقبتهم بكل جدية، والضرب بيد من حديد على المتلاعبين منهم، حتى يكونوا «عبرة» للآخرين.
فى أثناء احتفالات عيد الشرطة، بدا الرئيس عبدالفتاح السيسى مصمما، وبكل قوة، على مواجهة التداعيات الاقتصادية للأزمة العالمية على الاقتصاد المصرى، والبحث عن حلول دائمة ومستدامة، لإنهاء مشكلات الدولار والعملة الصعبة من خلال آليات واضحة ومحددة على المديين القصير والطويل، ومن هنا كانت دعوته لمناقشة الأوضاع الاقتصادية على مائدة الحوار الوطنى.
دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لمناقشة الأزمة الاقتصادية على مائدة الحوار الوطنى فى جلساته المقبلة تؤكد انفتاح الرئيس على كل الآراء والتوجهات دون حساسيات ما دام ذلك للمصلحة العامة، ويستهدف تحقيق التوازن بين حقوق المواطن وحقوق الدولة، ويراعى ظروف العمالة الوطنية، ويسهم فى تأمين احتياجاتهم ومتطلباتهم الضرورية.
مبدأ الحوارات والمؤتمرات الاقتصادية فكرة عالمية، حيث تم إطلاق أول مؤتمر اقتصادى بمصر فى 1982، بعد انتهاء الانسحاب الاسرائيلى من سيناء، وبدء دخول مصر مرحلة السلام والاستقرار، بعد فترة صعبة وطويلة من توجيه كل موارد الدولة المصرية إلى اقتصاد الحرب.
بعد ذلك كان المؤتمر الاقتصادى الثانى فى 2015 عقب الأحداث الكبرى التى شهدتها الدولة المصرية بدءا من 25 يناير 2011، وانتهاء بثورة 30 يونيو 2013، وكذلك الحرب على الإرهاب، وهو ما ترك بصمات غائرة على الاقتصاد الوطنى، تمثلت فى فاتورة ضخمة من الخسائر وصلت إلى ما يقرب من 440 مليار دولار أمريكى.
لم يكن قيام ثورتين فى خلال 3 سنوات هو العامل الوحيد الذى تسبب فى كل تلك الخسائر والأضرار، وإنما كانت الحرب على الإرهاب من أبرز العوامل أيضا التى أجهدت الاقتصاد المصرى خلال تلك الفترة، حتى نجح الجيش المصرى، ومعه قوات الشرطة المصرية، فى قطع دابر الإرهاب ومحاصرته ووأده، بما أدى إلى إنقاذ الدولة من «الغرق» و «التفتيت» كما حدث فى دول أخرى شقيقة مجاورة.
بعد المؤتمر الاقتصادى الثانى فى 2015، انطلقت الموجة الأولى من الإصلاح الاقتصادى، وكانت موجه غاية فى التوفيق والنجاح بما حققته من عودة الثقة والاستقرار إلى الاقتصاد الوطنى، وكبح جماح الدولار، وللمرة الأولى يعاود الدولار الهبوط أمام الجنيه المصرى فى سابقة تدحض مقولة «اللى سعره بيرتفع لا ينخفض فى مصر»، حيث هبط الدولار من 24 جنيها إلى نحو 15جنيها، بخسارة 9 جنيهات فى الدولار الواحد، واستقرت الأمور الاقتصادية ما يقرب من 6 سنوات.
نجح الاقتصاد المصرى فى مواجهة جائحة «كورونا» بأقل الأضرار، وإن كان بالطبع قد تأثر بها، خاصة فيما يتعلق بزيادة أسعار المنتجات والخامات والطاقة عالميا التى قفزت إلى ما يقرب من 3 أضعافها بسبب ما حدث من إغلاق فى معظم دول العالم، واضطراب سلاسل الإمدادات العالمية.
لم يكد الاقتصاد العالمى يستفيق من غيبوبة «كورونا» حتى هبطت كارثة الحرب الروسية ــ الأوكرانية فى فبراير2022التى وجهت «لطمة» شديدة للاقتصاد العالمى، وأصابته بالاضطرابات الضخمة والعنيفة التى لاتزال مستمرة حتى الآن، والتى كانت أكثر عمقا وتأثيرا من جائحة «كورونا».
تأثر الاقتصاد المصرى مثل غيره من الاقتصادات العالمية الكبرى والناشئة والنامية، والأقل نموا بتلك الحرب اللعينة، ومن هنا جاءت الدعوة إلى عقد المؤتمر الاقتصادى الثالث فى أكتوبر 2022 الذى ربط فيه الخبير الاقتصادى المصرى العالمى محمد العريان بين أزمة الاقتصاد المصرى والأزمات العالمية، مشبها ما حدث بالعلاقة بين «المنزل» و«الحي»، حيث لا يمكن أن يكون «المنزل»، أى «منزل»، بمنأى عما يحدث فى «الحى»، وهو ما حدث مع الاقتصاد المصرى، وتأثره بالأزمة الاقتصادية العالمية.
للأسف الشديد، ومنذ نحو أربعة أشهر، اندلعت حرب إسرائيل العدوانية على غزة، ما أدى إلى زيادة الضغوط على الاقتصاد الوطنى، خاصة ما يتعلق بموارد مصر من السياحة التى تأثرت سلبيا، وكذلك موارد قناة السويس التى تأثرت سلبيا هى الأخرى بالحرب على غزة، وما استتبعها من اشتباكات بين الحوثيين من جانب والقوات الأمريكية والبريطانية من جانب آخر.
هذه الحرب الإسرائيلية المجنونة على غزة أسهمت فى تعميق الأزمة الاقتصادية المصرية، وهو ما كان يقتضى ضرورة البحث عن خيارات وآليات جديدة، ووضع خطة للاستفادة مما حدث من إنجازات ضخمة خلال السنوات العشر الماضية، التى تبلورت فى عودة الأمن والاستقرار إلى كل ربوع الدولة المصرية، إلى جانب ما حدث من إنجازات ضخمة فى مجال الزراعة واستصلاح الأراضى، وإقامة العديد من المناطق الصناعية، بالإضافة إلى التوسعات العمرانية الضخمة التى شملت إقامة 14 مدينة جديدة، وكذلك ما حدث فى مجال البنية التحتية ومعالجة المياه، وإقامة الموانى والمطارات الجديدة، وغيرها، مما يصعب حصره فى مقال واحد.
هذه الإنجازات الضخمة ضاعفت حجم الثروة المصرية، ومن هنا تأتى أهمية الاستماع إلى الآراء المختلفة، والاستفادة من وجهات النظر المتعددة، للخروج من المأزق الاقتصادى الحالى على المديين القصير والطويل، وطرح أفضل الحلول لإدارة واستغلال تلك الثروة التى تراكمت خلال السنوات العشر الماضية.
ربما تشهد الأيام القليلة المقبلة انفراجة كبيرة فى أزمة الدولار والذهب والعملات، والقضاء على السوق السوداء، وقطع دابر المضاربين في العملات الأجنبية، بعد توقيع الاتفاق مع صندوق النقد، ليعود الاستقرار إلى سوق الدولار مرة أخرى، وتنتهى الفجوة بين أسعار العملات الأجنبية فى السوق السوداء والأسعار الرسمية كما حدث فى عام 2016، ليكون ذلك بمثابة الخطوة الأولى نحو المعالجة النهائية لتلك الأزمة المتكررة.
فى احتفالات عيد الشرطة، كان الرئيس عبدالفتاح السيسى مصرا على إنهاء تلك الأزمة إلى الأبد بحلول موضوعية ودائمة، تضمن عدم تكرارها مرة أخرى كما حدث خلال العقود السبعة الأخيرة.
الحلول النهائية والموضوعية يجب أن تحتل الصدارة والأولوية على مائدة الحوار الوطنى، خاصة ما يتعلق بمشكلات الزيادة السكانية، وكذلك الفجوة بين التصدير والاستيراد، مرورا بمشكلات الصناعة الوطنية، وكيفية تشجيع الاستثمارات الأجنبية، إلى جانب بحث متطلبات زيادة الإنتاج المحلى، توفيرا للعملة الصعبة فى كل المجالات بلا استثناء.
أتمنى أن يسهم الحوار الوطنى المقترح حول الملف الاقتصادى فى وضع خريطة اقتصادية شاملة تسهم فى إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، ليتحول إلى اقتصاد إنتاجى حقيقى، تنعدم فيه الهوة بين الإنتاج والاستهلاك من جانب، وبين التصدير والاستيراد من جانب آخر لمصلحة الاقتصاد المصرى خلال الفترة المقبلة، بما يجنب مصر تكرار أزمات الدولار والعملة الصعبة.
نحتاج إلى روشتة إنتاجية ملزمة تسمح بتدفق الاستثمارات الوطنية والأجنبية، لتصبح مصر نمرا اقتصاديا إفريقيا واعدا، خاصة بعد دخولها تجمع «بريكس» بدءا من الشهر الماضى، وبما تملكه مصر من إمكانات اقتصادية وبشرية وسياسية هائلة، لينعكس كل ذلك على الاقتصاد الوطنى، ويتماشى مع ما تحقق من إنجازات هائلة خلال السنوات العشر الماضية.