المشكلات والحلول الاقتصادية على مائدة الحوار الوطنى
المؤكد أن إنجاز صفقة «رأس الحكمة» الاستثمارية الكبرى فى هذا التوقيت قد أضفى جوا من الراحة النفسية والطمأنينة الاقتصادية على المناقشات الدائرة الآن على مائدة الحوار الوطنى حول المقترحات القابلة للتنفيذ، للإسهام فى النهوض بالأوضاع الاقتصادية، وحل المشكلات الحالية من أجل بلورة تصورات متكاملة يتم رفعها إلى الحكومة والجهات المعنية، وتحويلها إلى قرارات تنفيذية.
ميزة صفقة «رأس الحكمة» تكمن فى مردودها الفورى المباشر، الذى تمثل فى تدفق عوائد مباشرة بلغت حتى الآن 10 مليارات دولار، تم تحويلها الخميس والجمعة الماضيين، بالإضافة إلى البدء فى اتخاذ الإجراءات اللازمة من قِبل البنك المركزى والجانب الإماراتى لتحويل 5 مليارات دولار من الوديعة الإماراتية إلى الجنيه المصرى، ليكون إجمالى المستحق من المرحلة الأولى 15 مليار دولار.
بعد ذلك، وخلال شهرين، سيتم استكمال المرحلة الثانية من الصفقة، التى تتضمن تحويل 14 مليار دولار سيولة مباشرة إلى البنك المركزى، بالإضافة إلى 6 مليارات دولار ودائع، لاستكمال الـ35 مليارا الأولى من قيمة الصفقة، ثم بعد ذلك يتبقى عائد المشاركة الذى يصل إلى 35٪ من إجمالى أرباح المشروع مدى الحياة.
تحول الصفقة إلى حقيقة واقعة، ودخولها حيز التنفيذ انعكس إيجابيا بشكل سريع على الأوضاع فى الأسواق، حيث خسر الدولار حتى الآن ما يقرب من 30 جنيها فى إطار رحلة عودته إلى معدلات أسعاره الطبيعية، التى من المتوقع أن تتحقق خلال الأيام القليلة المقبلة، بعد أن ضخ البنك المركزى كميات كبيرة من النقد الأجنبى فى البنوك، ما أسهم فى توفير سيولة دولارية كبيرة، وبما يؤدى فى النهاية إلى إعادة هيكلة السياسة النقدية، وتوحيد سعر الصرف، ليصبح للدولار سعر واحد فى البنوك والمصارف وشركات الصرافة، بعيدا عن عبث المضاربين وتجار الأزمات.
على الجانب الآخر، فقد عقد الحوار الوطنى، الأسبوع الماضى، العديد من الجلسات على مدى أربعة أيام، ناقش فيها العديد من القضايا الاقتصادية، بحضور العديد من الوزراء والمختصين والمسئولين، إلى جانب العديد من ذوى الرؤى والأفكار الاقتصادية المتميزة والمنتمين لمدارس اقتصادية مختلفة، فى إطار الرغبة فى الاستفادة القصوى من كل الرؤى والأفكار من أجل التوصل إلى بلورة حلول موضوعية مستدامة قابلة للتنفيذ للمشكلات الاقتصادية الحالية.
شهدت جلسات الحوار الوطنى طرح العديد من القضايا المهمة خلال مناقشات الأسبوع الماضى، لعل أبرزها ما يتعلق بترشيد الإنفاق الاستثمارى العام، وإعادة هيكلة الهيئات الاقتصادية، إلى جانب مناقشة حدود دور الدولة فى الاقتصاد والمشروعات المختلفة، وعلاقة ذلك بوثيقة ملكية الدولة فى إطار من الرغبة فى تشجيع الحكومة على مراجعة وثيقة «سياسة ملكية الدولة»، بما يضمن سرعة تنفيذها، وضمان استدامتها واستقرارها.
دارت أيضا مناقشات عميقة ومهمة حول قضية توطين الصناعة، باعتبارها من أهم القضايا المطروحة على مائدة حلول المشكلات الاقتصادية الحالية، لأنها البداية الصحيحة للخروج المستدام من الأزمات الاقتصادية، وتحقيق حلم الـ100 مليار دولار صادرات خلال المرحلة المقبلة من خلال بوابة زيادة الإنتاج الصناعى فى مختلف المجالات.
إذا تحقق حلم الـ100 مليار دولار صادرات سوف يكون ذلك البداية الحقيقية لانتهاء المشكلات الاقتصادية، واختفاء أزمات سعر الصرف، ووقف تدنى قيمة الجنيه كعملة وطنية فى مواجهة الدولار أو غيره من العملات الأجنبية.
على الجانب الآخر، فإن تحقيق هذا الحلم يحتاج إلى مقومات كثيرة، لعل أبرزها رفع كفاءة القطاع الصناعى فى مختلف المجالات، وتذليل كافة العقبات أمام توطين الصناعة، ومنح التسهيلات اللازمة لجذب رءوس الأموال الأجنبية للاستثمار فى المجالات الصناعية المختلفة، بما يؤدى فى النهاية إلى تحقيق التوازن بين فاتورة الواردات الضخمة وعوائد الصادرات، التى لاتزال أقل من المأمول منها.
كل هذا يتطلب وجود إستراتيجية وطنية للصناعة، بحيث تكون هذه الإستراتيجية بمثابة خارطة طريق للصناعة الوطنية، متضمنة الأهداف المحددة لها خلال مدد زمنية محددة، وطرق تحقيق هذه الأهداف، بحيث نصل فى النهاية إلى التوازن بين الصادرات والواردات، بما فيها تحقيق المستهدف فى الصادرات، لتصل إلى 100 مليار دولار.
الحديث عن الإستراتيجية الوطنية للصناعة ليس جديدا، لكنه حديث لم يكتمل للأسف الشديد حيث بدأ هذا الحديث فى الستينيات، وكانت هناك محاولات من أجل ذلك، وتم رفع شعار «التصنيع من الإبرة إلى الصاروخ»، لكن بسبب الحروب والأزمات، وانخراط الدولة فى تلك المشكلات، لم يتحقق هذا الحلم، ولم يتم البناء عليه بعد ذلك، بعد أن اتجهت الدولة إلى الانفتاح الاستهلاكى «السداح مداح»، كما قيل حينذاك فى السبعينيات والثمانينيات.
بعد ذلك، وفى أثناء حكومة د. أحمد نظيف، وفى ظل تولى المهندس رشيد محمد رشيد وزارة الصناعة، كان هناك حديث عن إستراتيجية وطنية للصناعة تستهدف زيادة معدلات النمو الصناعى من 2 ٪ إلى 9٪، ورفع حجم تصدير المنتجات الصناعية من 19 إلى 30٪ من إجمالى حجم الصادرات، وذلك فى نهاية 2009، لكن للأسف لم يكتمل تنفيذ هذه الإستراتيجية، وتم العصف بها بعد قيام ثورة 25 يناير، وما تبعها من توقف عجلة العمل والإنتاج، وما ترتب على ذلك من آثار اقتصادية مدمرة لحقت بالاقتصاد الوطنى، والتى قدّرها الخبراء بما يقرب من 440 مليار دولار، لتعود عجلة العمل والإنتاج إلى الخلف مرة أخرى.
سألت المهندس أحمد سمير، وزير الصناعة، عن الموقف الحالى للقطاع الصناعى؟ وهل تجاوز محنة ما بعد 2011؟ وأين تقف صادرات القطاع الصناعى الآن؟
أجاب المهندس أحمد سمير: القطاع الصناعى شهد تطورا ملموسا خلال السنوات الست الماضية، حيث زاد الاهتمام بهذا القطاع منذ المرحلة الأولى من الإصلاح الاقتصادى فى 2016، وبدأت إعادة ترتيب القطاع الصناعى من جديد حينما كان المهندس طارق قابيل وزيرا للصناعة فى هذا التاريخ.
منذ ذلك التوقيت شهد القطاع الصناعى نقلة نوعية فى ظل اهتمام الرئيس عبدالفتاح السيسى بهذا الملف، مما ترتب على ذلك ارتفاع قيمة صادرات مصر الصناعية وزيادتها بدرجة غير مسبوقة، فللمرة الأولى تقفز صادرات مصر الصناعية إلى 35٫2 مليار دولار فى العام الماضى بزيادة 12٪ على 2022 على الرغم من الظروف الاقتصادية العالمية القاسية، ليتصدر القطاع الصناعى القطاعات التصديرية غير النفطية، حيث احتلت صادرات قطاع مواد البناء المرتبة الأولى بما يقرب من 9 مليارات دولار فى العام الماضى مقارنة بنحو 7 مليارات دولار فى 2022، يليه قطاع المنتجات الكيماوية والأسمدة، وبعدها صادرات الصناعات الغذائية، وقد سجلت صادرات السلع الهندسية أكبر معدلات النمو بـ12٪، تليها صادرات صناعة الأثاث بنحو 10٪، ثم الصناعات الطبية بـ7٪.
سألت: هل هناك إستراتيجية وطنية للصناعة خلال المرحلة المقبلة باعتبار أن توطين الصناعة هو الحل المستدام للأزمات الاقتصادية؟
أجاب المهندس أحمد سمير: حاليا أوشكنا على الانتهاء من المراحل النهائية للإستراتيجية الوطنية للصناعة المصرية 2030، التى تسير على مسارين: أولهما الإصلاحات الهيكلية لهذا القطاع الحيوى، وثانيهما مبادرات القطاعات الصناعية، ويشارك مع وزارة الصناعة فيها البنك الدولى، وأحد أكبر بيوت الخبرة الاستشارية فى هذا المجال.
وفيما يخص المسار الأول، الخاص بالإصلاحات الهيكلية، فقد تم الانتهاء منه تماما، وجار الآن الانتهاء من المسار الثانى الخاص بمبادرات القطاعات الصناعية، حيث يتم إجراء التعديلات النهائية عليه، للوصول إلى الرؤية النهائية قبل عرضها على الرئيس عبدالفتاح السيسى تمهيدا لإطلاقها خلال المرحلة المقبلة، مشيرا إلى أن الهدف الرئيسى لتلك الإستراتيجية هو النهوض بقطاع الصناعة، وزيادة الإنتاج الصناعى فى مختلف المجالات، ومضاعفة الصادرات الصناعية لتصل إلى 100 مليار دولار من خلال آليات محددة ومنضبطة خلال المرحلة المقبلة.
فى النهاية، أعتقد أن حلم الـ100 مليار دولار صادرات ليس مستحيلا إذا تضمنت الإستراتيجية الوطنية للصناعة حلولاً موضوعية لزيادة الإنتاج فى القطاعات الصناعية المختلفة، بما يضمن الحد من فاتورة الواردات، وزيادة قيمة الصادرات فى إطار مدة زمنية محددة، وبما يضمن التغيير الهيكلى للاقتصاد الوطنى، وتحويله من الاقتصاد شبه الريعى إلى اقتصاد إنتاجى يكون قادرا على امتصاص الأزمات الإقليمية والعالمية بأقل أضرار ممكنة.
تبقى ضرورة مناقشة إستراتيجية توطين الصناعة المصرية ضمن ملفات الحوار الوطنى الاقتصادى الدائرة الآن، لتكون تلك الإستراتيجية هى «الحصان الأسود» للنمو الاقتصادى خلال المرحلة المقبلة، بعد أن أثبت الاقتصاد المصرى قدرته على الصمود، وامتصاص الأزمات خلال المرحلة الماضية.