من «عاليا» و «عمر» إلى الشعب!

بقلم: عبدالمحسن سلامة

شعرت برعشة خفيفة فى جسدي، وكادت الدموع تغرق عيني، حينما رأيت طفلة صغيرة بريئة فى عمر الزهور تعتلى المنصة بوصفها ابنة شهيد، وسريعا مر شريط طويل من المشاهد أمام عينى فهاهى تفقد والدها إلى الأبد بفعل فاعل مجرم وإرهابي.

لم يعد يصطحبها للتنزه، ولم تعد تنتظره على العشاء، ولن تجده معها فى حفلات المدرسة ولن تذهب بسرعة للقائه وهو يفتح باب الشقة ليلتقطها من على الأرض ليداعبها ويقبلها ويحتضنها بين ذراعيه.

استغرقنى هذا الشريط الدرامى من المشاهد غير أن «عاليا» جعلتنى أتمالك نفسى بسرعة وأغالب دموعى، بعد أن وقفت فى ثبات أدهش كل الحاضرين لتتحدث عن أبيها الشهيد العميد ياسر الحديدى مفتش الأمن العام بجنوب وشمال سيناء الذى استشهد يوم 8 مارس الماضى فى العريش، حينما كان يدافع عن مصر وشعبها ضد الإرهابيين.

وقفت فى ثبات تتحدث عن أبيها ـ قائلة «بابا لا يعوض، واستشهد علشان كان بيحمينا كلنا، وأنا كنت زعلانة يوم سفره لكنه كان دايما يقول لى لازم أسافر علشان نخلص بلدنا من الخونة والإرهابيين».

وأضافت «كنت زعلانة لما جالنا خبر استشهاده لكن اللى مصبرنى أنى عرفت أنه شهيد.. يعنى بطل وحى يُرزق فى الجنة وحاسس بينا».

لم تكتفِ الزهرة البريئة اليانعة بذلك، لكنها كانت حريصة على استكمال رسالتها إلى الشعب، موجهة حديثها للإرهابيين القتلة ـ قائلة «الجيش والشرطة زى الحفرة.. كل لما بيتاخد منهم بيزيدوا وها يفضلوا يدافعوا عن بلدهم لغاية لما يقضوا عليهم وعلى اللى بيساعدهم».

رسالة بليغة من زهرة مصرية بريئة لكل أفراد الشعب، لتطالبهم بالوحدة والاتحاد خلف جيشهم وشرطتهم وعدم الانكسار مهما تكن التضحيات ومهما تكن قوة الألم الذى يعتصرنا على فقدان أعز ما نملك من الآباء والأبناء من خيرة شباب مصر من الجيش والشرطة.

المشهد الثاني.. انتهت «عاليا» من كلمتها ليخرج علينا فى ساحة العرض صوت البطل ابن البطل الملازم تحت الاختبار عمر نجل الشهيد اللواء محمد عبد المنعم جبر مأمور مركز شرطة كرداسة الذى اغتالته يد الإرهاب الأسود يوم 14/8/2013 عند الهجوم على مركز شرطة كرداسة واقتحامه.

الابن بطل لأنه لم يخف، لم يرتعد، ولم يتردد فى دخول كلية الشرطة بعد استشهاد أبيه، والأب بطل لأنه استشهد وهو يدافع عن عرينه دون خوف أو تردد.

لقد وقع الحادث الغادر يوم 14 أغسطس، أى قبل إعلان نتيجة القبول فى ذلك العام بما يقرب من شهرين، كان من الطبيعى أن يتردد ويفكر فى الالتحاق بكلية أخرى بعد أن عاش الحادث الأليم، لكنه لم يتردد ولم يخف، فكان درسه لكل شباب مصر، فهو واحد منهم، ليعبر عن استكمال مسيرة أبيه فى محاربة الإرهاب، وحماية الوطن، ودخل كلية الشرطة فى العام نفسه الذى استشهد فيه والده بكل إرادته ورغبته، حتى تخرَّج فيها هذا العام.

خرج صوت عمر قويا مجلجلا ـ قائلا «أنا ابن الشهيد ومشروع شهيد، وفخور بأن والدى استشهد وتمسكت بأن أدخل كلية الشرطة، علشان أكمل مشواره فى البطولة والفداء، هو فخر بالنسبة لي، ولازم أجيب حق الشهداء، وأقول للعالم كله إننا مش خايفين».

«أحنا مش خايفين» هذه هى الرسالة، وهذا هو الدرس الذى قدمه الخريج الملازم عمر للعالم كله على وجه العموم، وللمصريين على وجه الخصوص، فالشعب المصرى مصنع للرجال، وهو شعب لا يخاف، ولن يركع مهما تكن التحديات.

 

عمر بعث برسالة للعالم أن الشعب المصرى مصرَّ على استئصال شأفة الإرهاب والتطرف، وأرسل رسالة إلى كل المصريين ليكونوا يدا واحدة فى مواجهة الإرهابيين.

أعتقد أن أسرة عمر، خاصة والدته، تستحق التحية والتقدير، فهى سيدة أصيلة من طين مصر، وقوية وشجاعة ولولا دعمها وموقفها ما كان إصرار عمر على مواجهة التحدى وعبور محنة فقد أبيه.

المشهد الثالث.. جاء الدور على النقيب رامى جمال حرب، أحد مصابى العمليات العسكرية، لم يتمكن رامى من الحركة إلا من فوق كرسى متحرك، بعدما أصيب بطلقة غادرة فى رقبته أفقدته القدرة على التحرك، ليكمل حياته على كرسى متحرك، بعد أن أصر على الصمود فى أثناء فض اعتصام رابعة فى 14 أغسطس 2013، ليكمل دور زميله بعد أن استشهد وهو إلى جواره.

جاء صوت النقيب رامى قويا وشامخا حينما قال «كان من الممكن أن يكون المقام مختلفا، وأن أحدثكم واقفا، لكننى فخورا بنفسى، لأن ما فقدته كان فى سبيل الله والوطن».

وأوضح أنه اصيب بطلقة غادرة رغم أن دوره كان توفير ممرات آمنة للمعتصمين ـ قائلا «أصبت بطلقة فى رقبتى وإللى ضربنى كان (مستخبي)، وهيفضل طول عمره مستخبى، لكن الحق ظاهر وغالب».

ثم وجه حديثه للطلاب الخريجين الجدد ـ قائلا « إنه يشعر بالشرف والفخر، داعيا الخريجين الجدد إلى التضحية بكل شىء من أجل وطنهم».

زلزلزت كلمات «عاليا» و«عمر» و«رامي» الحاضرين، وغادر الرئيس عبد الفتاح السيسى مقعده فى كل مرة ليذهب مسرعا لمصافحتهم، كل على حدة، والشد على أيديهم، وتحيتهم بقلب الأب وعقل القائد.

هى لحظة فارقة فى عمر الوطن، فالإرهاب يصر على استكمال جرائمه الغادرة، ولا بديل عن المواجهة، لكن ما يحدث بعد كل حادث إرهابى يؤكد أن مصر منتصرة بشعبها وجيشها وشرطتها، فالشعب الذى به أطفال مثل «عاليا» وشباب مثل «عمر» ورجال مثل «رامي» لا يمكن أن يهان أو ينكسر أو يهزم، فالأجيال متعاقبة، ومصر كما يقولون «ولادة» وهى فى رباط إلى يوم الدين.

أتفق مع ما جاء فى كلمة اللواء مجدى عبدالغفار، وزير الداخلية، حينما أشار إلى «أن آفة الإرهاب تزداد خطورتها نتيجة تنامى حدة الصراعات الإقليمية بالمنطقة التى تتخذها خفافيش الظلام من دعاة الشر والإرهاب ستارا يتخفون وراءه للعصف باستقرار المنطقة، وعرقلة جهود التنمية والازدهار بها، بل إنهم بأفعالهم الإجرامية يهددون الإنسانية بأسرها، وهو ما يتطلب وعى المجتمع الدولى كله، لأهمية وضرورة التكاتف من أجل مواجهة هذا الخطر، حرصا على أمن وسلامة البشرية».

المؤكد أن الظروف التى تمر بها المنطقة منذ اندلاع ثورات الربيع العربى الذى انقلب إلى خريف ساخن تسهم فى زيادة حدة الإرهاب، فهناك أطراف إقليمية ودولية من مصلحتها استمرار الأوضاع الحالية فى المنطقة، ولايمكن التفرقة بين ما يحدث فى المنطقة الآن، وما يحدث فى إسرائيل من الضغط على الفلسطينيين، ومنعهم حتى من الصلاة فى المسجد الأقصي، وفرض شروط «مذلة» عليهم فى تحركاتهم وممارسة شعائرهم الدينية، والعالم العربى غارق حتى النخاع فى مشكلاته الداخلية، حيث انتهى الدور السورى لفترة طويلة لا يعلمها إلا الله، ومن قبله انتهى الدور العراقي، والحال نفسها فى ليبيا، وأما الخليج فقد غرق فى مستنقع اليمن. وهكذا كان المخطط المرسوم بدقة لتدمير المنطقة كلها، ويتم تنفيذه برعاية أطراف دولية وبدعم ومساندة أطراف إقليمية، مثل الدور المشبوه الذى تقوم به قطر منذ فترة طويلة، حتى سقط القناع عنها أخيرا، بينما والى عكا ـ أقصد والى قطر ـ يصر على استكمال خطته فى إدخال المنطقة إلى موجة جديدة من الفوضى حينما يستقوى بإيران وتركيا ويريد أن يشعلها حربا مذهبية وطائفية وإقليمية.

الوضع جد خطير فى المنطقة، ولا بديل عن استكمال حالة التأهب القصوى لاستئصال شأفة الإرهاب من مصر، ولن يكون ذلك إلا بوحدة الشعب المصرى خلف قواته المسلحة وشرطته لكى تستكمل مهامها فى القضاء على البؤر الإجرامية، وملاحقة «الذئاب المنفردة والشاردة» فى كل مكان.

ما شاهدته فى حفل تخريج طلبة الكليات العسكرية أمس، وحفل تخريج طلبة كلية الشرطة يوم الأربعاء الماضي، يبعث على الأمل والطمأنينة، فالتدريب على أعلى مستوي، والكفاءة والمهارات لا تقل عن المستويات الدولية فى هذا المجال، والأهم من هذا كله هو هذا الشعب العظيم الذى ينجب أجيالا عظيمة من الأطفال والشباب والرجال والنساء مستعدين للتضحية بالغالى والنفيس من أجل وطنهم مصرين على استكمال رسالة الأجيال السابقة فى التضحية والفداء حتى إعلان النصر، وإعلان ان مصر خالية من الإرهاب، وما هذا اليوم ببعيد إن شاء الله.

الرابط

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/605141.aspx

Back to Top