حوارات الإصلاح الاقتصادى.. لماذا؟

بقلم: عبدالمحسن سلامة

أول أمس أعلن المهندس شريف إسماعيل رئيس الوزراء من خلال «الأهرام» أن الحكومة سوف تطلق حوارا مجتمعيا لمناقشة القضايا التى تشغل الرأى العام وعلى رأسها الإصلاح الاقتصادى ومنظومة الدعم وتحسين الأحوال المعيشية، مشيرا إلى أنه سيتم عقد سلسلة من اللقاءات مع رؤساء النقابات المهنية ورموز المجتمع المدنى فى إطار حرص الحكومة على الاستماع لآراء واقتراحات أكبر عدد ممكن من ممثلى فئات المجتمع وإطلاعهم على سياسات الحكومة اقتصاديا واجتماعيا.

أعتقد أن هذه الخطوة تستحق التحية حتى وإن جاءت متأخرة فمن المهم أن يكون هناك حوار جاد ومتواصل حول قضايا الإصلاح الاقتصادى لشرح أبعاده وتفاصيله للرأى العام مع الاستماع إلى كل وجهات النظر حول التخوفات والمحاذير التى يمكن أن تكون فى ذهن البعض، خاصة بعد أن أثبت الشعب المصرى أنه شعب ذو معدن خاص، وشعب أصيل، استطاع تحمل تبعات الإصلاح خلال الفترة الماضية.

الرئيس عبدالفتاح السيسى يشعر بالمواطن ومتاعبه ولذلك فهو حريص دائما على توجيه الرسائل إليه فى كل مناسبة، وآخرها ما حدث فى مؤتمر الشباب بالإسكندرية حينما أكد أنه يشعر بمعاناة المواطنين ويشكرهم على صبرهم وتحملهم وقوة إرادتهم. وعلى الحكومة أيضا أن تنهج نهج الرئيس من خلال التواصل والحوار المباشر مع كل الفئات وشرح أبعاد الموقف كاملا للرأى العام.

الإصلاح الاقتصادى قضية حياة أو موت للاقتصاد المصرى، لكن لابد للمواطن أن يفهمها فهى قضية من أجله ولمصلحته وليست ضده أو خصما منه.

هى قضية من أجل مستقبل الأجيال الجديدة لكنها فى نفس الوقت هى قضية الأجيال الحالية، فهذه الأجيال هى التى تقود الإصلاح وتقوم بتنفيذه وتتحمل تبعاته، ولهم الحق كاملا فى طرح رؤاهم حول كيفية تحقيق إصلاح اقتصادى ناجح ودائم، يعفينا من «ذل السؤال» وطلب المعونة من هنا أو هناك، فمصر بها من الإمكانيات البشرية والمادية ما يكفي، لكن المشكلة تمتد عبر عقود طويلة تخبطت فيها السياسات الاقتصادية بعنف يمينا ويسارا من خلال اقتصادات السوق قبل ثورة 23 يوليو 1952 إلى اقتصادات التأميم والاشتراكية والشمولية بعدها، ثم إلى اقتصادات الانفتاح غير المنضبط «السداح مداح» فى منتصف السبعينيات، وهكذا ظل الاقتصاد المصرى يتخبط يمينا ويسارا بعنف وبلا هوادة، والأخطر دون رؤية استراتيجية محددة تهدف إلى إقامة اقتصاد إنتاجى حقيقى كما حدث فى دول أخرى كثيرة كانت مثلنا أو ربما أقل، ثم تفوقت علينا الآن كما فى حالات دول عديدة مثل: كوريا الجنوبية واليابان، والهند، وسنغافورة، والصين، ودول أخرى كثيرة.

الفرق الوحيد بيننا وبينهم أن إصلاحهم الاقتصادى كان له هدف، وكانت لديهم استراتيجية ورؤية للخروج من المأزق، أما نحن فى مصر فكانت التحولات العنيفة والعشوائية هى السائدة فى أغلب الأوقات والفترات على حسب هوى ورغبة من يقوم بالتنفيذ.

لقد قمت بزيارة كوريا الجنوبية منذ عدة سنوات وتصادف حينها أن كان الاحتفال باليوم الوطنى هناك، وألقى الرئيس الكورى آنذاك خطابا إلى شعبه شرح فيه الظروف الصعبة التى عاشها الشعب الكورى بعد الحرب بين الكوريتين، حتى وصل به الحال إلى أن يأكل «الكلاب الضالة والدود»، لكن إرادة التحدى والإصلاح جعلت من هذا الشعب عملاقا اقتصاديا ضخما يناطح أكبر الاقتصادات العالمية الآن.

استطاع الشعب الكورى الجنوبى التغلب على محنته لأنه لجأ إلى إصلاح اقتصادى حقيقى دائم ومستمر تحولت كوريا الجنوبية من خلاله إلى عملاق اقتصادى إنتاجي، وهو ما حدث أيضا فى العديد من دول العالم التى استطاعت تخطى محنتها الاقتصادية وإن اختلفت الأساليب والطرق على حسب ظروف كل دولة، فليس هناك نموذج واحد قابل للتعميم على الجميع، لكن هناك رؤية لابد أن يتم الاتفاق عليها حول مستقبل الإصلاح والهدف منه وشكل الاقتصاد المستقبلي، وضرورة تحويله من الاقتصاد الريعى إلى الاقتصاد الإنتاج، فمهما تكن نتائج الاقتصاد الريعى يظل فى مهب الريح كما حدث مع الاقتصاد المصرى قبل 25 يناير حينما كان الاقتصاد المصرى «قويا» لكنه كان «اقتصادا ريعيا» انهار مع أول «خبطة» كما يقولون.

 

صحيح أن الأحداث كانت صعبة ومؤلمة وتحولت الثورة إلى فوضى أكلت الأخضر واليابس، لكن الاقتصاد انهار بسرعة لأنه لم يكن اقتصادا إنتاجيا، فقد تحولت مصر إلى مستورد كبير لأى شيء وكل شيء بدءا من أعواد الثقاب والخلة إلى الملابس والسيارات وكل النفايات الصينية.

كان المستوردون يذهبون إلى الصين لشحن «كونتينرات» بها كل شيء مثل الساعات والملابس والأحذية فى سابقة هى الأولى من نوعها وهى أن يتم الاستيراد بهذا الشكل «السفيه» والمجنون دون ضوابط أو قيود.

المفترض أن الاستيراد يتم لصنف ما بمواصفات محددة وصارمة، لكن الأمر تحول فى مصر إلى كارثة، مما أدى إلى تعطل حركة العمل والإنتاج، وتحولت مصر إلى سوق لنفايات السلع، وأصبح من الصعب أن تجد المنتج المصرى منافسا أو حتى موجودا داخل الأسواق المصرية.

لكل ذلك لم يتحمل الاقتصاد المصرى الأزمات بعد ثورة 25 يناير، وانهار سريعا، ودخلنا نفقا مظلما بعد أن ازدادت فاتورة الدعم إلى أرقام فلكية مزعجة، والأخطر أن تقوم الحكومة بدعم المستوردين من خلال دعم الدولار.

كان من المستحيل الاستمرار فى دعم الدولار، فكان قرار التعويم المؤلم، لكنه كان ضروريا بعد أن تم استنفاد الاحتياطى النقدى كاملا، وكانت مصر على أبواب الإفلاس.

قرار التعويم كان من القرارات الاستراتيجية وعيبه الوحيد أنه جاء متأخرا، ولأنه جاء متأخرا فقد تضاعف سعر الدولار إلى أكثر من ثلاثة أضعاف مما كان له تأثيرات سلبية ضخمة على مستويات أسعار السلع والخدمات.

اكتوى المواطن بنيران الأسعار بشكل فجائي، وتحمَّل وصبر، وهذا يُحسب للشعب المصري، ويجعل من الضرورى أن تقوم الحكومة بتجنب أخطاء الماضى، فالإصلاح لا يمكن أن يكون إصلاحا ماليا فقط، وإنما لابد من رؤية واستراتيجية شاملة لتحويل الاقتصاد المصرى من الاقتصاد الريعى إلى الاقتصاد الإنتاجى فى أقرب فرصة ومن خلال خطة زمنية محددة ومعلنة، وبرامج واضحة للوصول إلى هذا الهدف الاستراتيجى لتتحول مصر إلى صين العرب وأفريقيا، وإلى نمر اقتصادى على غرار النمور والأسود الاقتصادية التى سبقتنا فى آسيا وأمريكا اللاتينية.

صحيح أن لغة الأرقام مهمة لكن يبقى إلى جوار لغة الأرقام جوانب أخرى لا تقل أهمية، وهى كيفية تقليل الآثار السلبية إلى أدنى مستوى لها من خلال ما يسمى بـ «الفاتورة الحمائية» التى يجب أن تكون «منضبطة» وموجهة إلى مستحقيها بشكل حقيقي.

أيضاً من المهم إعادة تشغيل عجلة العمل والإنتاج بكل قوة، وتوسيع تلك القاعدة الإنتاجية بشكل منهجى واستراتيجى لسد فجوة الاحتياجات المحلية من الغذاء والكساء والدواء والاحتياجات الأخري، ثم الوصول إلى زيادة الصادرات من السلع التامة الصنع وعدم الاكتفاء بصادرات المواد الخام أو الحاصلات الزراعية كما يحدث حاليا.

كل المؤشرات تشير إلى أن مصر تسير فى الطريق السليم وأنها مقبلة على نهضة اقتصادية خلال السنوات القليلة المقبلة، لكن التحدى صعب وليس بالأمر السهل واليسير، والأصعب أن يكون الإصلاح الاقتصادى مستديماً قائماً على التحول إلى الاقتصاد الإنتاجى الذى يسهم فى توفير احتياجات 100 مليون مواطن مصري، وزيادة الصادرات وتقليل الواردات.

مهمة ثقيلة تتحملها الحكومة الآن، وهذا هو قدرها، لكن فى الوقت ذاته لابد أن يتسع صدرها للاستماع إلى كل وجهات النطر لتقليل آثار الإصلاح الاقتصادى السلبية إلى أدنى حد ممكن على جميع القطاعات التى تضررت بشكل كبير من فاتورة التعويم والإصلاح الاقتصادي، ومن هنا تأتى أهمية الحوارات واللقاءات التى دعت إليها الحكومة أخيرا لترجمة كل الأفكار والنقاشات إلى خطة عمل ورؤية استراتيجية لمستقبل أفضل ـ إن شاء الله ـ.

الرابط

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/608430.aspx

 

Back to Top