عودة إيطاليا.. وفى انتظار روسيا!
بقلم: عبدالمحسن سلامة
كما توقعت فى المقال قبل الماضى بشأن قرب عودة العلاقات الإيطالية ـ المصرية إلى سابق عهدها، وعودة السفير الإيطالى لمصر، فقد قررت إيطاليا عودة سفيرها إلى القاهرة، مما يعد انتصارا هائلا للدبلوماسية المصرية التى أدارت الأزمة بحكمة واقتدار، فى فترات شديدة الحساسية والتعقيد بعد حادث مقتل الباحث الإيطالى «جوليو ريجيني».
حينما ذهبت إلى روما، فى نهاية الشهر الماضي، والتقيت رؤساء تحرير كبريات الصحف الإيطالية، ورئيس الاتحاد العام للصحفيين الإيطاليين، كانت الأجواء هناك مهيأة لعودة العلاقات، لكنها كانت مشحونة نتيجة الشحن الإعلامى والسياسى الذى استمر أكثر من عام، منذ مقتل «ريجيني»، وكانت المعضلة كلها تكمن فى إيجاد مخرج للأزمة، لكن بفضل جهود الدبلوماسية المصرية، وثبات الموقف المصري، والتعامل الشفاف من الرئيس السيسى فى هذا الملف، لم تجد إيطاليا مفرا من مراجعة موقفها، بعد أن سدت مصر كل الذرائع التى كان الجانب الإيطالى يدفع بها فى هذا الشأن، خاصة ما يتعلق بملف التحقيقات فى قضية «ريجيني»، بعد تقديم سلطات النيابة العامة المصرية كل العون فى هذا الصدد.
عودة السفير الإيطالى لمصر تفتح صفحة جديدة من العلاقات المصرية ـ الإيطالية، نظرا لخصوصية العلاقات الثنائية بين الدولتين، وما يجمعهما من علاقات إستراتيجية فى مجالات متعددة، أبرزها ملف الإرهاب والتطرف، والأوضاع فى ليبيا، وكارثة الهجرة غير المشروعة التى باتت تشكل هاجسا عنيفا لكل الإيطاليين ـ حكومة وشعبا، بالإضافة إلى التعاون الاقتصادى المتميز فى مجالى البترول والطاقة وغيرهما.
أعتقد أن عودة السفير الإيطالى سوف تساعد على تنشيط السياحة الإيطالية لمصر وعودتها إلى سابق عهدها، لأن قرار عودة السفراء هو بمثابة حملة ترويجية مجانية للسياحة المصرية فى السوق الإيطالية خصوصا، والأوروبية عموما
صحيح أن السياحة الإيطالية لم تتوقف ـ كما السياحة الروسية، لكنها بالقطع كانت متأثرة بشدة من قرار سحب السفراء، وعودة الأوضاع الدبلوماسية إلى طبيعتها سوف تسهم فى زيادة التدفق السياحى الإيطالى إلى مصر خلال الفترة المقبلة.
المهم أن يتم التحرك سريعا لوأد الفتن التى يمكن أن تثير غبارا فى ملف العلاقات بين البلدين، كما حدث فى مقتل ريجيني، أو مقتل المهندس المصرى على يد السائح الإيطالى خلال الأسبوع الماضي.
على الجانب الآخر، فإن أزمة توقف رحلات الطيران الروسية إلى مصر لا تزال سارية، منذ حادث سقوط الطائرة الروسية بسيناء فى أكتوبر من العام قبل الماضي، وحينذاك وضعت روسيا عدة شروط لاستئناف الحركة الجوية الروسية إلى مصر، منها تزويد مطارات القاهرة وشرم الشيخ والغردقة بأحدث أجهزة التأمين، وتركيب كاميرات مراقبة ذات سعة تخزينية 30 يوما، بدلا من 7 أيام، ومنح فرق التفتيش الروسية الأحقية فى الاطلاع على شرائط الكاميرات، وكذلك تخصيص أبواب للعاملين بالمطارات مزودة بأجهزة «البصمة البيومترية»، والاستعانة بشركة أمن خاصة، لمعاونة الأجهزة الأمنية فى تأمين مطارى الغردقة وشرم الشيخ والمبنى رقم «2» بمطار القاهرة.
من جانبها، استجابت سلطات الطيران المصرى لكل مطالب التأمين والأمان المتعارف عليها عالميا، لأنها جادة فى الوصول إلى أعلى المعدلات العالمية فى هذا المجال، بغض النظر عن الموقف الروسى أو غيره.
صحيح أن عودة السياحة الروسية أمر مهم بالنسبة لتعافى السياحة المصرية، لكن الالتزام بمعايير السلامة والأمن العالمية هدف فى حد ذاته تسعى سلطات الطيران المصرية إليه، واستطاعت فعلا أن تقطع فيه شوطا طويلا، جعلها محل تقدير من جميع الجهات الدولية المتخصصة فى هذا المجال.
الغريب فى هذا الأمر هو الموقف الروسى المتعنت وغير المبرر، حيث أرسلت روسيا نحو 5 وفود أمنية متتالية، لبحث ومراقبة إجراءات تأمين المطارات المصرية، بالإضافة إلى زيارات أخرى غير معلنة، وآخر هذه الوفود كان فى نهاية الشهر الماضي، واستغرقت الزيارة خمسة أيام، تفقد فيها الوفد كل مراحل التفتيش، وإجراءات التأمين بالمطار، وتابع فيها كيفية تطبيق نظام «البصمة البيومترية» لدخول العاملين بالمطار. كما تفقد أجهزة الكشف على الركاب والحقائب، وكذلك كاميرات المراقبة، لمتابعة تحركات المسافرين والعاملين.
المهم فى ذلك، أن الوفد، فى نهاية زيارته، أعلن بكل وضوح إشادته بكل الإجراءات المصرية، وأن السلطات المصرية نفذت جميع الملاحظات الروسية التى أبدتها وفودها الأمنية المتتابعة خلال زياراتها المطارات المصرية.
كان من المتوقع فى هذه الحالة أن يعلن الصديق الروسى فورا عودة السياحة واستئناف الرحلات، مادام قد انتفى سبب القطيعة، وتأكد الجانب الروسى بنفسه من سلامة الإجراءات المصرية وحرص السلطات المصرية على تطبيق المعايير الدولية فى تأمين المطارات، لكن حتى الآن لم يحدث هذا، مما يثير العديد من التساؤلات حول الموقف الروسى الغامض وغير المبرر.
روسيا من الدول المساندة لمصر بقوة منذ ثورة 30 يونيو، وهناك حوار إستراتيجى بين القاهرة وموسكو، وعلاقات متميزة تجمع الرئيسين السيسى وبوتين، بما يعكس الأهمية الإستراتيجية للعلاقات بين الدولتين. كما أن هناك تطابقا فى الرؤى بين الدولتين فى العديد من الملفات المتعلقة بالشرق الأوسط، والوضع فى سوريا وليبيا، فضلا عن الرؤية المشتركة لطرق مكافحة الإرهاب وقضايا التطرف والعنف.
الطبيعى أنه فى ظل هذا المناخ الإيجابى بين الدولتين أن يكون هناك تحرك أكثر إيجابية من الجانب الروسى فى مسألة عودة السياحة الروسية واستئناف حركة الطيران، غير أن الذى يحدث على الأرض عكس ذلك، فهناك وفود أمنية متعددة تتكرر زياراتها للمطارات المصرية، وعقب كل زيارة تخرج الإشادات من هذه الوفود، مما يبشر بقرب انتهاء الأزمة وعودة الأمور إلى مجاريها الطبيعية، غير أن أمد الأزمة امتد أكثر من اللازم، ودون مبررات منطقية أو واقعية، مما جعل الأسئلة تتصاعد فى المجتمع المصرى حول سر التعنت الروسي، وسبب استمرار الحظر حتى الآن، وهل الأمر يتعلق فعلا بالنواحى الأمنية فى المطارات؟ أم يتعلق بالنواحى السياسية والاقتصادية للجانب الروسى نفسه؟!.
هناك آراء تتردد حول تأجيل قرار عودة السياحة الروسية إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الروسية فى مارس المقبل، وهناك البعض يربطها بالأزمة الاقتصادية الروسية، وآراء أخرى تربطها بالتوقيع على ملف المفاعل النووى المصرى بالضبعة.
التباطؤ الروسى فى اتخاذ قرار عودة السياحة إلى مصر واستئناف رحلات الطيران، أثر سلبا على صورة الصديق الروسى فى الأوساط المصرية، وأظهر الجانب الروسى بمظهر غير الحريص على قوة الاقتصاد المصري، فى وقت نشهد فيه استمرار التدفق السياحى الروسى إلى دول مثل تركيا، رغم كل التوترات بين الجانبين.
الشعب المصرى يتعاطف مع ضحايا الشعب الروسى فى حادث الطائرة الروسية بسيناء فى 31 أكتوبر عام 2015 الذى أدى إلى مقتل 224 شخصا كانوا على متن الطائرة.
كل الشعب المصرى كان حزينا على هؤلاء الضحايا، وقدمت مصر ـ وتقدم ـ كل ما يمكن للوصول إلى كشف ملابسات الحادث، وهو فى النهاية عمل إرهابى خسيس، يستهدف الإضرار بمصر اقتصاديا، والإضرار بالعلاقات المصرية ـ الروسية، ومن غير الطبيعى أن تحقق روسيا للإرهابيين أهدافهم، وتستمر فى تعنتها غير المبرر وغير المفهوم الذى يلقى بظلال ضبابية على العلاقات بين الشعبين.
أتمنى أن يراجع الجانب الروسى نفسه، وأن يمتلك من الشجاعة ـ كما فعلت إيطاليا بشأن عودة السفراء ـ ما يجعله يستطيع أن يتخذ القرارات اللازمة لعودة السياحة الروسية إلى مصر، واستئناف الرحلات الجوية، مادامت قد التزمت السلطات المصرية وقدمت كل ما تستطيع، سواء فيما يتعلق بمعايير الأمن والسلامة فى المطارات، أو فى ملف التحقيقات، وهو الأمر الذى كان محل إشادة من جانب كل الوفود الأمنية الروسية التى قامت بزيارة المطارات المصرية أخيرا.
استمرار الحظر يضع العلاقات بين البلدين أمام تحدٍ صعب فى مواجهة الرأى العام المصري.. فهل يتحرك الدب الروسى أم ننتظر وفودا أمنية جديدة وزيارات متكررة دون جدوى؟!.
رابط المقال
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/609526.aspx