التخاريف الأمريكية والإرادة المصرية

بقلم: عبدالمحسن سلامة

تصر الولايات المتحدة الأمريكية علي استمرار مخططها للفوضي الخلاقة حتي بعد أن تغيرت إدارتها، ورحل أوباما وجاء ترامب، وفي وقت كنا نعتقد فيه تغيير مسار السياسة الأمريكية وعودتها إلي الصواب وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، ومحاولة غسل ذنوبها علي الخطايا والحماقات خلال الفترة الماضية التي كان من نتيجتها ظهور »داعش» والقوي الإرهابية والمتطرفة في المنطقة، ونشوب الاقتتال والحروب الأهلية في ليبيا واليمن والعراق، إلا أن هناك من يسعون في الإدارة الأمريكية إلي استمرار نفس النهج الفاشل.

جاء ترامب واتهم هيلاري كلينتون منافسته في الانتخابات بأنها وإدارتها هم من ساعدوا» داعش»، واعترف بأخطاء الإدارة الأمريكية السابقة في هذا المجال، إلا أن أنصار وحلفاء الإدارة السابقة يشعلون صراع المؤسسات في إدارة ترامب وآخرها ما حدث في الأسبوع الماضي حينما أعلنت الإدارة الأمريكية علي لسان وزير خارجيتها ريكس تيلرسون تخفيض بعض المبالغ المخصصة لمصر في إطار برنامج المساعدات الأمريكية سواء من خلال التخفيض المباشر لبعض مكونات الشق الاقتصادي من البرنامج، أو تأجيل صرف بعض مكونات الشق العسكري بإجمالى نحو 290 مليون دولار.

أتفق تماما مع ما جاء في بيان وزارة الخارجية, ردا علي هذا الإجراء، بأنه يعكس سوء تقدير لطبيعة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين علي مدي عقود طويلة، واتباع نهج يفتقر للفهم الدقيق لأهمية دعم استقرار مصر ونجاح تجربتها، وحجم وطبيعة التحديات الاقتصادية والأمنية التي يواجهها الشعب المصري، وخلطا للأوراق بشكل قد تكون له تداعياته السلبية علي تحقيق المصالح المشتركة المصرية الأمريكية.

مصر لا تعيش علي المعونة الأمريكية، وهي مسألة رمزية للعلاقة الاستراتيجية بين الدولتين منذ مبادرة السلام التي قام بها الرئيس الراحل محمد أنور السادات، لكن للأسف الشديد الإدارات الأمريكية ومنذ إدارة بوش الابن وبعده أوباما تحاول استخدام هذه المعونة لأغراض سياسية ثبت فشلها أكثر من مرة لكنهم يصرون علي تكرار نفس الأسلوب.

كانت البداية من كونداليزا رايس ومسلسل الفوضي الخلاقة، الذي وضعته كاستراتيجية للمنطقة العربية، ووقتها لم يحدث الاهتمام الكافي بهذا السيناريو الكارثي، وبدأت أموال التمويل للجهات المشبوهة تتدفق علي المنطقة، وكذا رحلات التدريب علي سيناريوهات الفوضي في الخارج ،تمهيدا لإشعال المنطقة ودخولها في دوامات الفوضي والعبث، وهو ما تم الدفع به عقب ثورات الربيع العربي التي بدأت بأهداف نبيلة لكنها تحولت إلي خريف حارق اجتاح المنطقة كلها، وبدأت أجندات التقسيم والتفتيت تظهر علي أرض الواقع، فظهرت داعش التي استولت علي مناطق كثيرة في العراق وسوريا ،تمهيدا لإقامة دولة إرهابية متشددة تعصف بالمنطقة كلها، وتم تقسيم العراق عمليا إلي ثلاث دول »واحدة للشيعة، وثانية للسُنة، وثالثة للأكراد «وكذا الحال في سوريا، والأمر نفسه في اليمن» دولتان»، وتقسيم ليبيا إلى دويلات ومناطق قبلية لأن ليبيا ليس بها سُنة أو شيعة.

هكذا كان السيناريو المشئوم الذي نجح للأسف في بعض الدول، وكانت مصر هي درة التاج في هذا المسلسل، وأسهمت إدارة أوباما في تعميق الأزمة بموقفها المساند للفوضي والداعم لقوي التطرف والإرهاب، لكن وعي الشعب المصري ومساندة قواته المسلحة جعل مصر تخرج من أزمتها سريعا بنشوب ونجاح ثورة 30 يونيو، لكن الإدارة الأمريكية تورطت علانية حينما لجأت إدارة أوباما إلي ورقة المعونات وقامت بتجميد جزء كبير من المعونة بعد نجاح ثورة 30 يونيو التي أوقفت مخطط الفوضي في المنطقة حتي عاد هو بعد ذلك ـ أقصد أوباما ـ وأقر بخطأ قراره ليعيدها بعد ذلك قبل رحيله.

الموقف الآن غريب وغير مفهوم، لأن الرئيس الأمريكي ترامب أعلن استراتيجية مخالفة للإدارة السابقة في المنطقة، وكشف هو بنفسه تورط الإدارة السابقة في رعاية ملف الإرهاب والتطرف في المنطقة، لكن من الغريب أن تخرج تلك الاشارات المتناقضة من داخل إدارته.

ريكس تيلرسون وزير الخارجية إحدى علامات الاستفهام المحيرة في تلك الإدارة، ففي الوقت الذي قرر فيه قبيل توليه وزارة الخارجية اعتزامه التصدي بشكل مباشر لدور جماعة الإخوان في المجتمع الأمريكي، ومناهضته لكل الكيانات الإرهابية والمتطرفة إلا أنه قدم نهجا مغايرا لذلك فور تسلمه منصبه، ومن أحدث مواقفه الغريبة هو موقفه من قطر، وفي الوقت الذي أدان فيه الرئيس الأمريكي ترامب مواقف قطر الداعمة للإرهاب، فان موقف تيلرسون يسير عكس هذا الاتجاه، وربما يفسر ذلك انه كان رئيسا من قبل لشركة  «ايكسون موبيل» النفطية، التي شغل من خلالها مقعدا رسميا ضمن مجلس الأعمال الأمريكي ـ القطري، ونفس المقعد في مجلس الأعمال الأمريكي ـ التركي.

مواقف تيلرسون تقف رافضة لاتخاذ موقف أمريكي حاسم تجاه الأزمة القطرية، وهو ما جعل موقف ترامب ضبابيا في تلك الأزمة بعد أن كان واضحا بكل قوة في البداية.

أحدث مفاجآت تيلرسون هو التدخل لخفض جزء من المعونة الأمريكية لمصر وتجميد جزء آخر لحين فرض الوصاية الأمريكية علي القرار المصري متوهما أن ذلك يمكن أن يحدث، وناسيا أن مصر تمتلك قرارها الوطني ولا تخضع ولا تساوم مهما تكن التحديات والظروف.

مصر حريصة علي العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وتعتبرها علاقة استراتيجية لكنها في ذات الوقت ترفض الوصاية من أحد علي قرارها الوطني، ومن هنا جاء رد وزارة الخارجية المتوازن علي قرار المعونة, علي أمل أن تعيد الإدارة الأمريكية النظر في قرارها من منطلق الحرص علي قوة العلاقة بين الدولتين والإدراك الكامل للأهمية الحيوية للعلاقات القوية بين الدولتين لتحقيق مصالح البلدين، لان برنامج المعونات لا يفيد طرفا واحدا، لكنه يقدم استفادة

Back to Top