الخروج عن النص فى نيويورك.. بقلم عبدالمحسن سلامة من نيويورك

 

 

فجأة خرج الرئيس عبدالفتاح السيسى عن النص المكتوب فى أثناء إلقاء خطابه المهم أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الثانية والسبعين، ليوجه أربعة نداءات مهمة، وفى توقيت غاية فى الأهمية.

الخروج عن النص المكتوب فى لقاءات الأمم المتحدة يعنى أن هناك ضرورة ملحة تتطلب ذلك، وأن هناك فرصة يمكن استثمارها، وأن هناك شيئا ما يتم التحضير له، ويحتاج إلى قوة دفع إضافية من جميع الأطراف حتى يمكن أن يخرج إلى النور.

خرج الرئيس عن النص ليوجه أربعة نداءات:

الأول إلى الشعب الفلسطينى، ليقول له: من المهم للغاية الاتحاد وراء الهدف وعدم الاختلاف، وعدم إضاعة الفرصة، والاستعداد لقبول التعايش مع الإسرائيليين فى أمان وسلام.

الثانى إلى الشعب الإسرائيلى، ليقول له: لدينا ولديكم تجربة رائعة فى السلام يمكن أن تتكرر مرة أخرى مع الفلسطينيين، قفوا خلف قيادتكم من أجل السلام لاستغلال الفرصة التى ربما لا تتكرر ونحن معكم.

الثالث إلى الدول المحبة للسلام، وشعوب الدول العربية ليطالبهم بمساندة خطوات السلام، لأنها لو نجحت ستغير وجه التاريخ.

الأخير إلى الرئيس الأمريكى ترامب والإدارة الأمريكية ليؤكد لهم أن هناك فرصة عظيمة لكتابة صفحة جديدة فى تاريخ الإنسانية من أجل تحقيق السلام فى منطقة الشرق الأوسط.

القضية الفلسطينية دائما فى القلب فى السياسة الخارجية المصرية، ومصر هى أكثر الدول التى تحملت أعباء القضية الفلسطينية دون كلل أو ملل، وضحت بسخاء من دماء شبابها وأموالها مالم تتحمله دولة أخري، ومصر تقوم بذلك دون أن تنتظر الشكر من أحد، لأن القضية الفلسطينية هى قضية أمن قومى لمصر، ومن هنا ورغم أعباء مصر ومشكلاتها، فهى تقوم بدور حيوى وخطير هذه الأيام لتحريك القضية الفلسطينية، وإخراجها من النفق المظلم الذى وصلت إليه، نتيجة انقسام شعبها مابين الضفة وغزة، ونتيجة الأوضاع السيئة فى المنطقة بعد ثورات الربيع العربى التى دمرت سوريا وليبيا واليمن، وأضاعت العراق قبلها، وأدت إلى اهتزاز أركان الدول العربية جميعها، وتعرضها لأزمات عنيفة مما جعل إسرائيل فى مكان دافئ وآمن لأول مرة فى تاريخها لا ينازعها فيه أحد.

 

صحيح أن اليمين المتشدد هو الذى يحكم إسرائيل الآن بقيادة بنيامين نيتانياهو، لكن الصقور أحيانا يمكن التواصل معهم، والوصول إلى حلول، كما حدث مع مناحم بيجين فى أثناء توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وكما حدث مع إسحاق رابين فى اتفاقية أوسلو.

 

مصر تبذل جهودا ضخمة الآن مع الفلسطينيين من أجل إعادة اللحمة إلى الشعب الفلسطيني، وإنهاء حالة الانقسام بين الضفة وغزة، وأظن أن ذلك الجهد قد آتى ثماره، ولم يعد سوى إعلان إنهاء حالة الانقسام قريبا على الأرض، إذا كانت هناك نيات مخلصة من الفلسطينيين أنفسهم، فقد مهدت مصر الأرض للتقارب، وتبقى رغبة الفلسطينيين أنفسهم، وما إذا كانوا جادين فى إنهاء الانقسام، والنظر إلى المستقبل من أجل إنهاء معاناة الشعب الفلسطينى؟!

ليس هذا فحسب، بل كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة فى لقاءات الرئيس السيسى فى نيويورك، سواء من خلال اللقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو أو الرئيس الأمريكى ترامب وغيرهما من قادة دول العالم المختلفة من أجل المساعدة فى التوصل إلى خريطة سلام حقيقية تنهى سنوات طويلة من العذاب والمعاناة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

لم تكن القضية الفلسطينية هى الوحيدة على أجندة اللقاءات المصرية فى نيويورك هذه المرة، وإنما كانت واحدة من بين القضايا المهمة التى تتبناها السياسة المصرية، فالجديد فى السياسة المصرية الآن هو السير بالتوازى فى كل الملفات، بحيث لا يتم تعطيل ملف على حساب آخر، ومن هنا كانت المبادئ الأربعة الأخرى التى طرحها الرئيس لتكون هى الأجندة التى تتحرك بها مصر أمام المجتمع الدولى خلال المرحلة المقبلة.

المبدأ الأول هو الالتزام بمفهوم الدولة الوطنية الحديثة التى تقوم على مبادئ المواطنة، والمساواة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، بحيث يمر طريق الإصلاح عبر الدولة الوطنية، ولا يقوم على أنقاضها، كما يحدث فى سوريا وليبيا.

كانت رؤية مصر واضحة منذ أن تولى الرئيس مقاليد الحكم تجاه سوريا، ومصر لا تدافع أو تتمسك بأشخاص، وإنما تدافع عن كيان دولة معرض للخطر، وبالتالى رفضت كل محاولات المساس بالكيان السورى أو تحطيمه، وفى البداية وجدت الرؤية المصرية معارضة من بعض الدول الشقيقة والصديقة، غير أن الوضع تغير الآن، وبات العالم أكثر اقتناعا بالرؤية المصرية فى معالجة الملف السوري.

الحال نفسه فى ليبيا، وليبيا بالنسبة لمصر أمن قومي، لأن الحدود مشتركة والمصالح واحدة، ومصر لن تسمح بسقوط ليبيا، وتحويلها إلى قاعدة للمتطرفين والإرهابيين، ومن هنا كان تأكيد الرئيس ضرورة إيجاد مخرج للأزمة الليبية، يضمن عدم تحويلها إلى مسرح للعمليات الإرهابية، وتجار السلاح والبشر.

المبدأ الثانى ضرورة مواجهة الإرهاب، لأنه لن يكون هناك نظام إقليمى أو عالمى دون مواجهة شاملة وحاسمة للإرهاب.

الإرهاب ليس قضية مصرية، وإنما هو قضية عالمية، ومصر تخوض حربا شرسة ضد الإرهاب والإرهابيين، وفى بداية الأمر كان العالم ينظر إلى الإرهاب بشكل انتقائي، لكن الآن الوضع تغير، وأصبح العالم كله يعانى الإرهاب، وبات العالم أكثر اقتناعا الآن بضرورة التكاتف لاستئصال الإرهاب من جذوره.

مواجهة الإرهاب كانت وستظل على رأس أولويات مصر، سواء من خلال عضويتها بمجلس الأمن أو الجمعية العامة، ورئاستها لجنة مكافحة الإرهاب، ليس دفاعا عن مستقبل مصر، وإنما دفاعا عن مستقبل المجتمع الدولى كله.

المبدأ الثالث: ضرورة معالجة أوجه الخلل فى الأوضاع الاقتصادية العالمية من خلال اتاحة فرص النمو أمام الدول النامية بشكل متكافئ.

المبدأ الأخير: احترام مبادئ القانون الدولي، وعدم التدخل فى شئون الدول، أو اعتماد القوة والمعادلات الصفرية لتحقيق المصالح.

هنا طرح الرئيس قضية نهر النيل أمام الجمعية العامة لأن مصر لا تريد أن تفرض هيمنتها على أحد، لكنها فى الوقت نفسه لن تقبل المساس بحقوقها.

مصر تتعامل فى هذا الملف وفقا لمبادئ القانون الدولى فهى التى سعت للتوصل إلى الاتفاق الثلاثى بين مصر والسودان وإثيوبيا لمعالجة قضية سد النهضة، ويبقى على الآخرين الالتزام وحسن النيات لتجنب ضياع الفرصة النادرة التى تقدم نموذجا ناجحا لإدارة العلاقات والمصالح بين دول حوض النيل.

فى اعتقادى أن خطاب الرئيس أمام الجمعية العامة واحد من أهم الخطابات التى ألقاها منذ أن تولى مسئولية الحكم فى مصر، لأنه لم يترك صغيرة أو كبيرة فى السياسة الخارجية المصرية إلا وتطرق إليها، موضحا رؤية مصر فى التعامل مع كل القضايا بوضوح وشفافية.

الفرق واضح بين أول خطاب يلقيه الرئيس أمام الجمعية العامة عام 2014، وبين خطابه الأخير، ففى الخطاب الأول كان الحرص على توضيح ما حدث فى مصر من تطورات عقب ثورتى 25 يناير و30 يونيو، أما فى الخطاب الأخير فهو خطاب التعافى من تداعيات ما حدث خلال الفترة الماضية، فمصر الآن باتت دولة قوية، مستقرة، راسخة، تعرف طريقها، وتحدد أجندتها وفق مصالحها ورؤيتها وأمنها القومي.

 

الآن مصر استعادت دورها الإقليمى والعربى والدولي، وهى تتمتع بعلاقات متميزة مع أقطاب المجتمع الدولى أمريكا، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي، كما استعادت مصر دورها العربى، ولعل موقف الرباعى العربى (مصر، السعودية، الامارات، والبحرين) يؤكد مكانة مصر الآن، ومدى تفهم الأشقاء رؤية مصر فى مجال التعاون العربي، ومكافحة الإرهاب، والوقوف ضد كل من يموله أو يساعده.

 

حاولت قطر بأموالها التأثير فى مجريات الأحداث فى نيويورك، فقامت بنشر إعلانات مدفوعة الأجر فى الصحف، ووسائل الإعلام الأمريكية، وحاول تميم حشد المؤيدين فى مؤتمر صحفى له، لكنه فشل رغم كل الأموال التى تم دفعها، وظلت قطر منبوذة من الجميع، وجاء لقاء الرباعى العربى أمام مقر البعثة المصرية ليوجه لطمة شديدة إلى قطر ومؤيديها.

التغيير الهائل فى المجتمع الأمريكى يمكن أن يستشعره الزائر بسهولة من خلال اللقاءات مع أعضاء الجالية المصرية الذين هم الآن أكثر قوة وتماسكا تجاه الموقف المصري، وباستثناء أعداد قليلة نجد وقوف الجالية المصرية خلف قيادتها ودولتها، وظهر ذلك أمام مقر الأمم المتحدة، وفى الوقت الذى وقف فيه المنتمون لجماعة الإخوان ومناصروهم بأعداد لا تزيد على أصابع اليدين فى مشهد مؤسف مع الممولين من قطر، نجد أعضاء الجالية المصرية (مسلمين وأقباطا) وقفوا صفا واحدا مؤيدين لمصر وسياستها، ورئيسها فى موقف مشرف وواضح للعيان.

على الجانب الآخر، ورغم مشاركات الرئيس العديدة فى اجتماعات الجمعية العامة ومجلس الأمن والعديد من اللجان والمؤتمرات، فقد تحول مقر إقامة الرئيس فى نيويورك أو فى الجمعية العامة إلى خلية نحل، وكان هناك العديد من اللقاءات المهمة مع الكثير من قادة دول العالم المختلفة إلا أننى أعتقد أن أبرز هذه اللقاءات هى لقاءات الرئيس مع الرئيس الأمريكى، ورئيس الوزراء الإيطالى، ورئيس الوزراء الإسرائيلى.

لقاء الرئيس الأمريكى تم فى مقر إقامة الرئيس فى نيويورك مما يعكس تقديرا خاصا للرئيس ومكانته، وكان لقاء مهما تجاوز مدته المحددة سلفا وامتد إلى أكثر من ساعة، وأهمية اللقاء أنه جاء عقب سحابة الصيف التى اعترت العلاقات المصرية ـــ الأمريكية بعد قرار الإدارة الأمريكية الجائر حجب جزء من المعونة، وأيضا نظرا للأجواء الحالية المتعلقة بدفع عملية السلام، وكذا موقف الرباعى العربى من الأزمة مع قطر.

كلها موضوعات حساسة ومهمة تم التطرق إليها، وغيرها من القضايا فى إطار التفاهم بين الرئيسين، بما يؤشر على إزالة كل النقاط العالقة، وبما يؤكد مزيدا من التقارب فى العلاقات بين البلدين خلال المرحلة المقبلة.

أما لقاء الرئيس مع رئيس الوزراء الإيطالى باولو جينتيلونى، فهو يستمد أهميته بعد عودة السفراء بين الدولتين، وانتهاء مرحلة من الجمود فى العلاقات بين البلدين، مما يعنى فتح الباب لعودة المياه إلى مجاريها الطبيعية فى المجالات الاقتصادية والسياحية والسياسية.

مصر لها علاقات متميزة مع الجانب الإيطالى فى كل المجالات، وإيطاليا داعم مهم لمصر فى حربها ضد الإرهاب، ومن المتوقع أن تشهد العلاقات المصرية ــ الإيطالية مزيدا من الازدهار والتعافى خلال المرحلة المقبلة، سواء فيما يتعلق بعودة السياحة الإيطالية، والتعاون الاقتصادى بين الجانبين، أو التعاون فى الملف الليبي، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وعودة الاستقرار إلى ليبيا، وانتشالها من الضياع والسقوط.

على الجانب الآخر، كان الجانب الاقتصادى حاضرا وبقوة خلال اجتماعات نيويورك، حيث كان هناك العديد من اللقاءات مع رجال المال والأعمال، خاصة فى قطاعات الاستثمار، والبترول، والأغذية، والتأمين، وكان إجماع الحضور على الإشادة ببرنامج الإصلاح الاقتصادى، وتقديرهم للخطوات التى اتخذتها مصر فى هذا الإطار.

 

صدور قانون الاستثمار كان مهما بالنسبة للمستثمرين الأجانب، ومن الضرورى التعجيل بإصدار اللائحة التنفيذية التى تتم مناقشتها الآن، ومن المتوقع صدورها خلال الأيام القليلة المقبلة.

شرح الرئيس خريطة الاستثمار فى مصر، وفرص الاستثمار المتاحة، خاصة فى منطقة خليج السويس ومشروع المليون ونصف المليون فدان، والميزة التنافسية للاستثمار فى مصر، لأنها الأقل تكلفة، والأكثر عائدا.

 

مصر تتمتع بموقع تنافسى شديد التميز، وتتوافر بها العمالة المدربة والرخيصة، وتتوافر بها البنية التحتية اللازمة من كهرباء ومياه، وهى لاتزال الأرخص فى مجال أسعار الطاقة رغم تحريرها.

 

كانت الوفود الأمريكية من رجال الأعمال والمال متجاوبة إلى أقصى درجة مع شرح الرئيس، وقد تمت ترجمة هذا التجاوب إلى زيارة يقوم بها وفد منهم إلى مصر خلال شهر أكتوبر المقبل تمهيدا لعقد مؤتمر دولى موسع للاستثمار فى مارس العام المقبل، بشرم الشيخ.

المؤتمر سوف يكون فرصة مهمة للحوار حول برنامج الإصلاح الاقتصادي، وطرح كل مزايا الاستثمار فى مصر أمام المستثمرين فهناك أكثر من 650 نوعية من الاستثمار متاحة الآن أمام المستثمرين من كل دول العالم، وهناك العديد من المزايا فى قانون الاستثمار الجديد سوف يتم طرحها خلال المؤتمر، بالإضافة إلى أنه سيتم الانتهاء من فكرة الشباك الواحد للمستثمرين، خلال الشهر المقبل، وكل هذا من أجل زيادة الاستثمارات المتوقعة خلال العام المقبل إلى نحو 10 مليارات دولار على الأقل تتم مضاعفتها بعد ذلك.

ولأن هناك اهتماما عالميا ببرنامج الإصلاح الاقتصادى المصرى فقد تم اختيار د. سحر نصر وزيرة الاستثمار ضمن المجلس الاستشارى للأمم المتحدة للاستثمار، وشاركت فى جلساته خلال عقد الجمعية العامة للأمم المتحدة فى الأسبوع الماضى.

السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة ودون اقتصاد وطنى لن تكون هناك دولة قوية، ومن هنا كان حرص الرئيس خلال مشاركته فى فعاليات الدورة الثانية والسبعين، لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة على شرح خطوات مصر السياسية والاقتصادية فى آن واحد أمام دول العالم المختلفة بعد أن اجتازت مصر أخطر مرحلة فى تاريخها خلال الفترة الماضية، لتستعد لكتابة مرحلة جديدة فى تاريخها من أجل تحقيق الانطلاق الاقتصادى والسياسى على جميع الأصعدة خلال المرحلة المقبلة.
الرابط

http://www.ahram.org.eg/NewsQ/614777.aspx

Back to Top