حكاية 9 ساعات فى عرض البحر.. بقلم عبد المحسن سلامة

بقلم :عبدالمحسن سلامة

لا أحب ركوب البحر، وليس لدى ثقافة بحرية واسعة، وكل علاقتى بالبحر هى علاقة مصايف، أو علاقة ثقافية بسيطة من خلال قراءاتي، أو من خلال بعض الأعمال الفنية الشهيرة مثل فيلم «تيتانك» حينما اصطدمت تلك السفينة العملاقة بجبل الثلج لتبدأ رحلة الغرق الشهيرة، أو فيلم «الطريق إلى إيلات» ذلك الفيلم الرائع الذى يجسد ذكرى من أعظم الذكريات العسكرية حينما استطاع رجال البحرية المصرية تدمير المدمرة الإسرائيلية «إيلات».

إيلات كانت واحدة من أعظم المدمرات العسكرية وأحدثها، حينما اشترتها إسرائيل من بريطانيا عام 1956، واشتركت مع القوات الإسرائيلية فى العدوان الثلاثى عام 1956، وفى حرب 1967، وكانت إسرائيل تتعمد استفزاز مصر بها بعد هزيمة 1967، حينما كانت تقوم باختراق المياه الإقليمية لمصر، حتى استطاع رجال القوات البحرية تفجير المدمرة إيلات فى 21 أكتوبر 1967، أى منذ 50 عاما بالتمام والكمال، وعليها طاقمها الذى يتكون من مائة فرد، بالإضافة إلى دفعة من طلبة الكلية البحرية الإسرائيلية، وكان حادث إغراق المدمرة إيلات من الأحداث التى قلبت موازين العسكرية البحرية فى العالم وزلزلت إسرائيل بعد أن استنجدت إسرائيل بقوات الرقابة الدولية لكى تقوم الطائرات الإسرائيلية بعمليات إنقاذ الأفراد الذين كانوا على متنها، واستجابت مصر احتراما لشرف العسكرية المصرية، ولم تنتهز الفرصة للقضاء عليهم داخل البحر.

منذ 50 عاما والبحرية المصرية تحتفل بهذا اليوم كيوم عيد للبحرية المصرية، وهذا العام اختارت القوات البحرية الاحتفال بشكل مختلف، حيث كان من الضرورى تحديث القوات البحرية للدفاع عن الحدود البحرية المصرية من أطماع الدول الأخري، وتأمين السواحل المصرية ضد أخطار الإرهاب والهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى تأمين حقول البترول والغاز المصرية الموجودة فى المياه الإقليمية المصرية، وأبرزها حقل «ظهر» أكبر حقول الغاز فى مصر والشرق الأوسط.

كان يوم الخميس الماضى يوما حافلا، حيث أصر الرئيس عبدالفتاح السيسى أن يبدأ الاحتفال به مبكرا فى تمام الساعة التاسعة لنستيقظ فى الرابعة فجرا لكى نصل فى التوقيت المحدد لكى نشهد الاحتفال والمناورة البحرية الضخمة «ذات الصوارى 2017» التى شهدها الرئيس لتأمين أحد أهداف الدولة الاقتصادية بالبحر ضد العدائيات غير النمطية، وضد العمليات الإرهابية، بالإضافة إلى صد هجوم جوى معادٍ وعمليات أخرى كثيرة.

قاعدة الإسكندرية البحرية هى أقدم القواعد العسكرية البحرية المصرية منذ إنشاء حصن رأس التين فى عهد محمد علي، لكنها ظلت لفترة طويلة لم تمتد إليها يد التطوير خاصة بنيتها التحتية منذ ثلاثينيات القرن الماضى، إلا أنه تم تحديث القاعدة من الألف إلى الياء وإنشاء أرصفة بحرية جديدة، وحاجز أمواج، وتطوير كامل للبنية التحتية، ومرافق وشبكات الطرق، وإنشاء مهبط للطائرات الهليكوبتر، ورفع كفاءة المنشآت بالقاعدة بما يتناسب مع المنظور العام للقواعد البحرية العالمية.

قاعدة الإسكندرية البحرية مدينة متكاملة تشعر فيها بعظمة وشموخ القوات المسلحة المصرية، وكيف أنها الآن أصبحت من أهم 10 قوات مسلحة على مستوى العالم.

إلى جانب تحديث القاعدة فقد كان احتفال القوات البحرية على موعد مع إضافة 4 وحدات بحرية منضمة حديثا فى إطار خطة تحديث وتسليح القوات المسلحة، وتضمنت الوحدات حاملة المروحيات (أنور السادات) طراز ميسترال لتكون ثانى حاملة بعد الحاملة الأولى جمال عبدالناصر، بالإضافة إلى غواصتين طراز 209، والفرقاطة الفاتح طراز «جوويند» والتى أتت تتويجا لمشروع تصنيع مشترك مع الجانب الفرنسى لتعود مصر إلى تصنيع المعدات البحرية بعد توقف لسنوات طويلة تمهيدا لتصنيع أول فرقاطة بحرية مصرية خالصة قريبا.

انتهت وقائع الاحتفال بعد أن قام قادة الوحدات البحرية الجديدة بتسلم المصحف الشريف والعلم من الرئيس عبدالفتاح السيسى إيذانا بتكليفهم بمسئولية قيادة الوحدات الجديدة، ثم قام الرئيس بتفقد هذه الوحدات، ورفع العلم عليها لتبدأ مهامها فى حماية السيادة المصرية على المياه الإقليمية والاقتصادية.

 

بعد نهاية وقائع الاحتفال كان الموعد مع المناورة «ذات الصوارى 2017» التى نفذتها وحدات القوات البحرية بالذخيرة الحية بمشاركة عشرات القطع البحرية من مختلف الطرازات والتشكيلات من القوات الجوية وعناصر الوحدات الخاصة البحرية.

كان لى الشرف ضمن مجموعة من الزملاء فى الانتقال بعد نهاية الحفل إلى الفرقاطة «الفاتح» فى أول خروج لها إلى البحر بعد أن رفع الرئيس العلم عليها.

بدأنا دخول الفرقاطة فى حدود الساعة الثانية عشرة ظهرا وحضر إلينا أحد ضباط البحرية الموجودين على متن الفرقاطة ليلقى إلينا تعليمات الأمن والسلامة، ولأننى ليس لى علاقة ود بالبحر، فقد بدأت أشعر بالرهبة والقلق، ومن الواضح أن الضابط قد استشعر قلقي، فبدأ يطمئننا، وأن هناك طبيبا موجودا معنا لمن يعانى دوار البحر أو مشكلات أخري، وقام باستدعاء الطبيب، فذهبت إليه فى لهفة وأخذت منه قرص دواء أخبرنى أنه مخصص لمنع دوار البحر.

بدأت الفرقاطة الإبحار فى عرض البحر، وبدأت تأخذ سرعتها حتى تصل فى موعدها بالتمام والكمال إلى مكان المناورة.

بعد أن وصلنا إلى مكان المناورة أخبرنا أحد الضباط بضرورة الصعود إلى كابينة القيادة لمشاهدة المناورة عن قرب، مشيرا إلى استخدام الذخيرة الحية فى المناورة، ولاداعى للخوف والقلق لأن كل شيء محسوب بدقة، وأن الهدف من المناورة هو تأكيد جاهزية القوات البحرية المصرية، ومعها تشكيلات من القوات الجوية لردع المعتدين، وحماية السواحل المصرية، وتأمين المنشآت الاقتصادية المصرية، خصوصا حقول البترول والغاز الموجودة ضمن حدودنا أو فى المياه الاقتصادية.

بدأت فعاليات المناورة بوصول طائرة الرئيس على سطح حاملة المروحيات جمال عبدالناصر من طراز «ميسترال»، حيث استمع إلى عرض تقديمى للمناورة، وأبرز الأنشطة والفعاليات التى تتضمنها.

فى كابينة قيادة الفرقاطة الفاتح شرح العقيد مروان عادل قائد السفينة بعض مميزات الفرقاطة وقدراتها وسرعتها، والأعماق التى تسير فيها، ثم كان الصمت الرهيب والالتزام بالتعليمات، خيم السكون الرهيب على الحضور، ولم نسمع سوى تعليمات المناورة، وبدأنا نشاهد وقائع المناورة بعد أن أذن الرئيس عبدالفتاح السيسى بإطلاق إشارة البدء.

اشتملت المناورة على تأمين حفار مصرى ضد العدائيات غير النمطية والإرهاب، حيث تم إنزال جماعات الضفادع البشرية من على متن غواصة تمثل الجانب المعادى للهجوم على الهدف، وقيام وحدات التأمين باكتشاف وإزالة الألغام، ومطاردة العائمات المعادية والتصدى لها ودفع اللنشات السريعة لاقتيادها إلى أقرب ميناء لاتخاد الإجراءات القانونية ضدها.

كما قامت القوات البحرية بالتصدى لهجوم بحرى معادى رمايات مدفعية سطح/ سطح بالذخيرة الحية، وبالأعيرة المختلفة على أهداف سطحية معادية.

المناورة اشتملت على العديد من العمليات، وشهدت تعاوناً وثيقاً بين القوات البحرية والقوات الجوية فى تنفيذ بيان مشترك لصد هجوم جوى معاد،ً وتأمين سفينة مصرية ضد التهديدات الجوية والسطحية وتحت السطح بمشاركة حاملة المروحيات جمال عبدالناصر، والمدمرة «تحيا مصر»، والفرقاطة «الفاتح»، وعدد من لنشات الصواريخ بمشاركة تشكيلات من القوات الجوية ممثلة فى طائرات الإنذار المبكر والمقاتلات متعددة المهام، والهليكوبتر من الطرازات المختلفة.

أثناء المناورة ضاعت كل هواجس القلق والتوتر داخلي، وازدادت مشاعر الفخر والعزة بقواتنا المسلحة، وبدأت أشعر بالألفة مع البحر وأمواجه، رغم كل مشاعر القلق وعدم الود مع البحر قبل أن أخوض تلك التجرية.

لم نشعر بالوقت إلا مع نهاية خيوط النهار، والليل ينسج خيوطه، لتبدأ رحلة عودة الفرقاطة الفاتح إلى القاعدة البحرية.

انتظرنا بعض الوقت حتى عادت اللنشات التى كانت تشارك فى المناورة لتعود إلى مكانها فى الفرقاطة «الفاتح».

شاهدنا اللنشات السريعة وهى تشق عباب البحر، ثم تقوم بالتحضين إلى جانب الفرقاطة الفاتح لتبدأ رحلة رفعها ودخولها إلى مكانها فى الفرقاطة بسلام ونجاح.

بدأت الفرقاطة الفاتح رحلة العودة إلى القاعدة البحرية لنصل إلى رصيف الميناء فى تمام التاسعة مساءً لتنتهى أصعب وأسعد 9 ساعات فى عرض البحر لتكون أول رحلة بحرية لى على الإطلاق بعد خصام طويل مع البحر لكنها استطاعت أن تزيل كل مشاعر الخوف والرهبة من البحر إلى الأبد.

Back to Top