التعاطف وحده لا يكفى! باريس من عبدالمحسن سلامة
ماكرون كان رائعا أثناء المؤتمر الصحفى ، والرئيس عبد الفتاح السيسى أخذ زمام المبادرة خلاله مؤكدا ثقته بنفسه و بشعبه لينتزع إعجاب و تقدير كل الحاضرين و المشاهدين
مصر تقدم تضحيات جساما فى حربها ضد الإرهاب، وتضحى بخيرة شبابها، ويسقط منها زهور يانعة من رجال الشرطة والجيش ومن كل أطياف المجتمع، والقوى الكبرى فى العالم تكتفى بالتعاطف معنا ومساندتنا معنويا فقط، رغم أن مصر تحارب الإرهاب نيابة عن العالم.
هذا الشعور كان دافعى لسؤال الرئيس الفرنسى ماكرون أثناء المؤتمر الصحفى الذى عقد بقصر الإليزيه فى ختام مباحثات الرئيسين المصرى والفرنسى يوم الثلاثاء الماضى عن آليات الدعم الاقتصادى والأمنى الذى توجهه فرنسا لمصر فى حربها ضد الإرهاب.
انتظرت إجابة الرئيس ماكرون على أحر من الجمر، فالحرب ضد الإرهاب شرسة وتستنزف الجهد والمال والبشر، ولابد لدول العالم المتحضر وعلى رأسها فرنسا وغيرها من الدول الكبرى أن يقفوا إلى جانب مصر لأن حريق الإرهاب وصل إليهم بعد أن انقلب السحر على الساحر.
دولة مثل ليبيا لا يتعدى سكانها 6 ملايين نسمة على أقصى تقدير حينما انهارت تحولت إلى بؤرة توتر شديدة لكل دول أوروبا وأصبحت المصدر الرئيسى للهجرة غير الشرعية بعد أن أصبحت هى المرفأ الأفضل عالميا لمافيا تجارة البشر والهجرة غير الشرعية، ونفس الحال فى سوريا التى تحولت إلى صداع دائم فى رأس دول العالم نتيجة نزوح السوريين ومحاولتهم الهرب منها إلى دول أوروبا والدول المجاورة رغم أن عدد سكان سوريا يبلغ حوالى 18 مليون نسمة. بحسبة بسيطة نجد أن عدد سكان دولتى سوريا وليبيا حوالى 24 مليون نسمة أى أقل من ربع سكان مصر. ماذا لو لا قدر الله، حدث مثلما كان مخططا وانهارت مصر؟!.. ماذا كان الموقف فى العالم كله؟!.. وما هو مصير المائة مليون مواطن مصري؟!.
هذه هى الأسئلة التى يجب أن يجيب عليها قادة دول العالم، وبالذات دول أوروبا باعتبارها أقرب دول العالم لنا وشركاء لمصر فى البحر المتوسط، وذاقوا نار انهيار ليبيا وسوريا بعد أن وقعت الدولتان فى فخ الانهيار والإرهاب.
الرئيس ماكرون كان أكثر من رائع فى إجابته حينما أكد قناعته بالدور المصرى فى مكافحة الإرهاب، وتفهمه الكامل لكل ما يقوم به الرئيس عبدالفتاح السيسى فى سبيل اجتثات جذوره، وأن فرنسا تقف بكل قوة مساندة لمصر وشعبها وقيادتها فى حربها ضد الإرهاب مشيرا إلى زيادة وتكثيف التعاون الاقتصادى والأمنى والعسكرى بين البلدين فى المرحلة المقبلة.
إجابات الرئيس ماكرون خلال المؤتمر الصحفى أكدت انطلاق العلاقات المصرية الفرنسى إلى آفاق أرحب خلال المرحلة المقبلة فى جميع المجالات، فلقد كان لمصر علاقات متميزة مع فرنسا دائما منذ الرئيس الأسبق ميتران الذى كان يعشق مصر وحضارتها ومرورا بالرئيس شيراك ثم ساركوزى وصولا إلى أولاند الرئيس السابق، غير أن صراحة أولاند ووضوحه أكدت أن العلاقات المصرية الفرنسية سوف تشهد مرحلة أكثر تميزا عن سابقتها، وأنه لن يكتفى بالتعاطف مع مصر فقط فى حربها ضد الإرهاب، وإنما سوف يترجم التعاطف إلى أفعال ملموسة فى كل المجالات خلال الفترة المقبلة حيث تشهد الشهور المقبلة وصول وفد اقتصادى فرنسى رفيع المستوى يضم عددا كبيرا من المسئولين بالإضافة إلى وفد من رجال الأعمال لوضع خريطة للعلاقات الاقتصادية المصرية ـ الفرنسى وكيفية تنميتها وتطويرها فى جميع المجالات، والتركيز على الاستثمار فى محور قناة السويس ومشروعات الطاقة والنقل والتعليم. قناة السويس بالنسبة للفرنسيين تمثل رمزية معينة للتعاون المصرى الفرنسى لأن »ديليسبس« الفرنسى هو الذى فكر ونفذ مشروع قناة السويس المصرية لربط الشرق بالغرب وجعل القناة ممرا مائيا عالميا يربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر.
فى عام 2019 سوف يمر 150 عاما على حفر القناة التى بدأ العمل فيها 1859 بعد أن أقنع ديليسبس الخديو محمد سعيد باشا بالمشروع، وقام الخديو بمنح الشركة الفرنسية امتياز حفر وتشغيل القناة لمدة 99 عام، واستغرق العمل فى حفر القناة 10 سنوات كاملة حيث تم الافتتاح فى نوفمبر 1869 أى منذ 150 عاما ولذلك فلقد قرر الرئيسان عبدالفتاح السيسى وأمانويل ماكرون اعتبار عام 2019 عاما للعلاقات الفرنسية ـ المصرية يتم فيه اطلاق العديد من الفعاليات الثقافية والسياحية والاقتصادية لتعزيز العلاقات الفرنسية ـ المصرية على مختلف الأصعدة.
أرادت بعض الجماعات المشبوهة ومعها بعض الدول تعكير صفو الزيارة التاريخية للرئيس إلى فرنسا وكانت شماعتهم حقوق الإنسان ــ وهو ماحاول الصحفى الفرنسى اثارته بسؤاله خلال الؤتمر ــ لكن الرئيس الفرنسى كان أكثر من رائع حينما أشار إلى أنه لا يقبل أن يعطيه أحد دروسا، وبالتالى هو يرفض أن يعطى أحدا دروسا فى حقوق الإنسان أو غيرها، وأنه يتفهم ظروف الدولة المصرية وحرب مصر على الإرهاب فى تلك الفترة مما يستدعى ضرورة مساندتها وليس العكس، أما المفاجأة من وجهة نظرى فكانت من الرئيس عبدالفتاح السيسى حينما تدخل فى الإجابة رغم أن السؤال لم يكن موجها له، وإنما بغرض إحراج الرئيس ماكرون، ومحاولة تعكير صفو الزيارة وبعد أن انتهى ماكرون من إجابته استكمل الرئيس السيسى على الفور الإجابة للصحفى الفرنسى مشيرا إلى أنه لا يخشى الإجابة، وأن مصر تسير فى طريقها لإقامة دولة عصرية مدنية حديثة تضمن الحياة الأفضل لمائة مليون مواطن فى الصحة والتعليم والإسكان والديمقراطية أيضا، وأن مصر تخوض معركة مهمة من أجل الارتقاء بحياة المواطن المصرى وتوفير سبل الحياة الكريمة له.
كانت جرأة الرئيس وعدم تردده محل إعجاب كل المراقبين والصحفيين والإعلاميين الحاضرين للقاء أو الذين تابعوه بعد ذلك مما انعكس على أجواء الزيارة فى كل مراحلها بعد ذلك.
لم يكن الرئيس السيسى يذهب إلى مكان إلا وكانت الحفاوة البالغة فى استقباله وكانت البداية فى مقر وزارة الجيوش ـ كما أطلق عليها ماكرون بعد ولايته ـ حيث استقبلته الوزيرة الفرنسية بالحفاوة البالغة وحرس الشرف والسلام الوطنى للدولتين واصطف حرس الشرف تحت الأمطار لاستقبال الرئيس، وأصرت الوزيرة رغم الأمطار أن تصطحب الرئيس لتفقد حرس الشرف فى مشهد مؤثر وكاشف لعمق العلاقات بين الدولتين والترحيب الحار بالرئيس هناك.
الترحيب الحار لوزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلى بالرئيس السيسى يعكس خصوصية العلاقات العسكرية المصرية الفرنسية حيث زودت فرنسا مصر بأحدث الطائرات العسكرية المتطورة »الرفال« وهى صفقة مهمة للقوات الجوية المصرية لما لهذه الطائرات من قدرات متميزة تفوق مثيلاتها من الطرازات الأخري، كما زودت فرنسا مصر بحاملتى طائرات »المسيترال« جمال عبدالناصر، وأنور السادات وهما أحدث طرازات حاملات الطائرات، وكانتا مخصصتين للبحرية الروسية، إلا أن الحظر الأمريكى الأوروبى آنذاك جعل فرنسا ترفض بيعهما إلى روسيا لتدخل مصر على الخط وتفوز بتلك الصفقة الثمينة مما جعلها تحتل المرتبة الأولى فى الشرق الأوسط بالنسبة للقوات البحرية وتصل إلى المرتبة السادسة على العالم فى هذا المجال.
هذا إلى جانب الفرقاطات الحديثة والمتطورة من طراز الفاتح، والأهم من ذلك كله أن فرنسا وافقت على بدء رحلة تصنيع المعدات العسكرية بالمشاركة مع مصر مما يسمح لمصر بنقل التكنولوجيا العسكرية فى هذا المجال.
لقد عانت مصر فترات طويلة من الاتجاه الأحادى الجانب فى التسليح حيث اتجهت مصر شرقا إلى الاتحاد السوفيتى فى الخمسينيات والستينيات، وبداية السبعينيات، ثم اتجهت غربا بعد ذلك إلى الولايات المتحدة منذ منتصف السبعينيات وحتى قدوم الرئيس السيسى الذى أصر على تنويع مصادر التسليح وعدم الوقوع فى فخ الاحتكار من جانب أى من القوى الدولية التى تريد فرض هيمنتها وأجندتها.
لم يكن مشهد حفاوة الاستقبال قاصرا فقط على وزارة الجيوش لكنه تكرر فى كل مكان ذهب إليه الرئيس السيسى حيث استقبله وودعه الرئيس الفرنسى على باب قصر الإليزيه وسط حرس الشرف والموسيقى العسكرية، وكذا فى مقر الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، ومقر مجلس الوزراء ووزارة الخارجية، وكل الأماكن التى ذهب إليها الرئيس.
حفاوة الاستقبال أكدت على تطور العلاقات المصرية الفرنسية، وتقدمها إلى الأمام خلال المرحلة المقبلة فى ظل ولاية الرئيس ماكرون بعد أن اتضح من خلال اللقاء تقارب الكيمياء بين الرئيسين بالإضافة إلى وعى الرئيس الفرنسى بأهمية مصر ودورها فى المنطقة، وأهمية الحفاظ على سلامتها وأمنها واستقرارها.
السفير علاء يوسف المتحدث الرسمى لرئاسة الجمهورية أكد فى تصريحات خاصة نجاح الزيارة أكثر مما كان متوقعا لها، ولأول مرة يتحدث رئيس أوروبى بهذه الصراحة وبهذا الوضوح فى ملف حقوق الإنسان الذى كان يعتبر شماعة للمتاجرة به من جانب الجمعيات المشبوهة، وهو ما يفتح الباب واسعا بعد ذلك أمام قادة الدول الأخرى لتفهم حقيقة الموقف المصرى فى هذا المجال بعيدا عن الشائعات والتقارير المشبوهة، مشيرا إلى أنه فى اليوم التالى وأثناء اجتماع الرئيس عبدالفتاح السيسى مع وزير الاقتصاد والمالية شاهد الوفد المصرى الترجمة العملية لنجاح الزيارة حينما أشار الوزير الفرنسى إلى أنه ملتزم بتنفيذ توجيهات الرئيس ماكرون بإقامة تعاون استراتيجى مع مصر خلال المرحلة المقبلة فى مختلف المجالات.
وأضاف: نجاح الزيارة انعكس على إحياء كل أوجه التعاون مع فرنسا وخاصة الجوانب الثقافية والتعليمية إلى جانب العلاقات الأقتصادية والعسكرية، كما تمت مناقشة كل القضايا المطروحة على الساحة الدولية والاقليمية أو التى تجمع بين البلدين خاصة الإرهاب، والوضع فى ليبيا، والسلام فى منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى العلاقات الثنائية مما انعكس إيجابيا على توقيع 17 مذكرة للتفاهم بين البلدين فى مختلف المجالات.
لفت انتباهى أثناء الزيارة أن حضارة مصر حاضرة وبقوة فى واحد من أشهر الميادين الفرنسية بعد الإليزيه وهو ميدان الكونكورد الشهير والذى تتوسطه مسلة مصرية عظيمة تستقبل الزائرين بتاجها الذهبى لتؤكد عظمة مصر ومكانة العلاقات المصرية الفرنسية، ليس هذا فقط لكن هناك وكما يؤكد ـ السفير إيهاب بدوى سفير مصر فى فرنسا حوالى 96 مستنسخا لتمثال »أبو الهول« تنتشر فى باريس وباقى المدن الفرنسية، مشيرا إلى تميز العلاقات المصرية الفرنسية منذ الحملة الفرنسية على مصر وما صاحبها من تطور العلاقات الثقافية بين الدولتين منذ فك رموز »حجر رشيد«، حيث تحولت باريس فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى وجهة للعلماء والمفكرين المصريين الذين حملوا مشاعل التنوير فى كافة المجالات العلمية والثقافية والفكرية، وقادوا الحركة الثقافية والفكرية والعلمية فى مصر آنذاك.
الآن هناك فى فرنسا أكثر من ثلاثة آلاف مبعوث مصرى فى فرنسا، كما أن هناك جامعة فرنسية فى مصر توليها الحكومة الفرنسية والرئيس ماكرون كل الاهتمام والرعاية.
المفاجأة التى أعلن عنها الرئيسان ماكرون والسيسى هى موافقة الحكومة الفرنسية على إنشاء «دار مصر» فى المدينة الجامعية فى باريس لتكون مقرا للطلبة المصريين فى باريس من أجل متابعتهم وتوفير سبل الرعاية لهم، وحل مشكلاتهم، وذلك من أجل زيادة التبادل العلمى والطلابى بين البلدين خلال المرحلة المقبلة، مع العلم أن فكرة إنشاء «دار مصر» هناك فكرة مؤجلة منذ عصر الملك فاروق قبل الثورة، وتم تأجيلها حتى أطلقها الرئيس السيسى مرة أخرى ووافقت عليها فرنسا.
أتمنى لو تحولت دار مصر إلى قاعدة إشعاع تحمل الخير والتنوير لمصر كما حدث مع طه حسين ومحمد عبده وغيرهما من العلماء الذين عادوا إلى مصر وقد تحولوا إلى منارات للإشعاع والتقدم.
أعتقد أن زيارة الرئيس السيسى لباريس كانت ناجحة بكل المقاييس وأن المرحلة المقبلة سوف تشهد ترجمة هذا النجاح من خلال آليات محددة يتم تطبيقها فى كل المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية فى إطار من المبادرات المشتركة بين الدولتين وبما يحقق الفائدة للشعبين وبالذات فى مجالات الطاقة والسكك الحديدية والاستثمار والسياحة والثقافة وغيرهم من المجالات.