لطمة عنيفة على وجه السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط.. بقلم عبدالمحسن سلامة
صفعتان عنيفتان على وجه ترامب وسياسته فى الشرق الأوسط، خلال أسبوع واحد, كانت البداية من مجلس الأمن حينما قدمت مصر قرارا يدين قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ويشدد على أن أى تغيير فى وضع القدس ليس له أثر قانونى، ويحذر من التداعيات الخطيرة للقرار الأمريكى ويطالب بإلغائه، مؤكدا أن وضع القدس يجب أن يتقرر عبر المفاوضات، وأن أى قرار أو عمل يمكن أن يغير من طابع أو وضع التركيبة الديموجرافية للقدس ليست له قوة قانونية وهو باطل وكأنه لم يكن ولابد من إلغائه.
كان من المفترض أن «يفيق» ترامب ويعيد حساباته فى منطقة الشرق الأوسط أو على الأقل يصمت وتمتنع بلاده عن التصويت على مشروع القرار، خاصة أن هذا المشروع هو تأكيد لقرارات عديدة سابقة أيدتها أمريكا وصوتت لمصلحتها على اعتبار أن القدس واحدة من قضايا الحل النهائى، ويتسق مع القرار الدولى المعترف به أمميا رقم 242 الذى ينص على ضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضى التى احتلتها عام 1967 بما فيها القدس.
للأسف الشديد لم يعدل ترامب من سياسته ولم تكتف إدارته بالصمت فى التصويت لكنه لجأ إلى أسلوب غريب لا يتفق مع مكانته كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، ولا يتسق مع قيمة ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها دولة عظمى، ولجأ إلى أساليب غريبة لإرهاب الدول التى يمكن أن تصوت لمصلحة القرار، وصدرت تصريحات غريبة جدا من مندوبة الولايات المتحدة فى مجلس الأمن بأنها سوف تكتب أسماء الدول التى سوف تصوت لمشروع القرار، وأن التصويت لمصلحة القرار إهانة لن تغتفر من الرئيس الأمريكى وإدارته.
تصرفات السفيرة الأمريكية «نيكى هيلى» ذكرتنى بالمدرس الفاشل الذى يلجأ إلى التهديد والوعيد لإرهاب التلاميذ بدلا من أن يقوم بدوره فى الشرح والتحليل وإقناع التلاميذ برأيه ومساعدتهم على تخطى المشكلات التى يواجهونها.
«نيكى هيلي» مدرس فاشل لكن أعضاء مجلس الأمن ليسوا تلاميذ ترتعد فرائصهم من التحذيرات التافهة، فكانت النتيجة عرض مشروع القرار المصرى للتصويت، ليلقى اجماعا دوليا يصعب تكراره، حيث وافق أعضاء مجلس الأمن الأربعة عشر عليه، ولم يعترض سوى مندوبة الولايات المتحدة نيكى هيلي، فكانت الصدمة عنيفة واللطمة قوية على وجه السيدة هيلي، وبدلا من أن تنتبه إلى خطورة أن يكون هناك اجماع دولى ضد أمريكا بمن فيهم أقرب حلفاء أمريكا فى الغرب والشرق وباقى دول العالم الأعضاء فى المجلس، والأعضاء الدائمون الأربعة، لجأت المندوبة الأمريكية إلى تصرفات لا تليق بأمريكا ومكانتها، ولا بدورها كوسيط فى عملية السلام فى الشرق الأوسط، حيث استمرت فى لغة التهديد والوعيد، وأعطت ظهرها للعالم كله، وهى الدولة التى تلقب نفسها بأم الديمقراطية، وأنها واحة الحرية.
هل الحرية هى تحقير الآخرين، وتهديدهم، وإرهابهم، ومحاولة إجبارهم على تغيير قناعاتهم، وطمس الحقائق التاريخية، وتغيير القرارات الدولية؟!.
هنا لابد من التوقف أمام الدور المصرى وشجاعته وتبنيه مشروع القرار، ونجاح الدبلوماسية المصرية فى تقديم مشروع قرار حظى باحترام وقبول جميع الدول الأعضاء فى مجلس الأمن باستثناء أمريكا طبعا، وهو الأمر الذى يؤكد عودة مصر إلى دورها القيادى فى المنطقة والعالم، وثقة المجتمع الدولى بها، وترجمة تلك الثقة إلى تأييد مشروع القرار بهذه النسبة الكاسحة.
صحيح أن القرار لم يصدر لاستخدام أمريكا حق النقض «الفيتو» الظالم، لكن النتيجة المعنوية تحققت، لأن صدور القرار أو عدم صدوره لن يغير من الأمر شيئا، فالقدس محتلة، وسوف تبقى كذلك حتى يتم تحريرها، وإن طال الزمن .
هذا هو درس التاريخ، فلا يمكن لاحتلال أن يدوم مهما طال الزمان، كل دول العالم التى كانت محتلة تحررت رغم احتلالها الذى دام سنوات طويلة، المهم أن تكون هناك إرادة شعبية لمواجهة المحتل، والشعب الفلسطينى يقدم النموذج فى هذا المجال، ورغم تخاذل قياداته وصراعها مع طواحين الهواء، فإن صمود الشعب الفلسطينى محل تقدير وإعجاب العالم، وكل يوم يقدم الشعب الفلسطينى الجديد والجديد، ومازال شبابه وفتياته وشيوخه يقدمون أرواحهم الطاهرة فداء لوطنهم بسخاء ودون مقابل.
غباء الإدارة الأمريكية وتعنتها فى مجلس الأمن نقلا الصراع إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وللأسف لجأت الإدارة الأمريكية إلى نفس الأسلوب من التهديد والوعيد والسباب، محذرة من يصوت لمشروع القرار المقدم إلى الجمعية العامة، ودخل ترامب على الخط مهدداً بوقف المساعدات المالية عن الدول التى تصوت لمصلحة مشروع القرار بالأمم المتحدة لتدخل صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية منتقدة اداء الإدارة الأمريكية والرئيس الأمريكى قائلة: «إنه من الصعب ان نرى كيف يمكن لترامب أن يستفيد من هذا التهديد لأنه قد ينطوى على قطع المساعدات المالية لأكبر حلفاء أمريكا الإستراتيجيين فى الشرق الأوسط». مشيرة إلى أن ذلك ليس من سلطة ترامب، وإنما هى سلطة الكونجرس الأمريكي، ونددت الصحيفة بقرار ترامب مؤكدة ان القرار يمثل تحدياً للرأى العام العالمي، ويعكس عقودا طويلة من السياسة الأمريكية تجاه وضع القدس، وان القرار جعل الولايات المتحدة معزولة سياسياً ودبلوماسياً.
عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة جلسة طارئة يوم الخميس الماضى لمناقشة مشروع القرار المقدم إليها، الذى يدعو أمريكا إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، وجاء التصويت لمصلحة المشروع باكتساح دون اكتراث بتهديد مندوبة أمريكا، ولا ترهيب الرئيس الأمريكى ترامب حيث صوتت لمصلحة مشروع القرار 128 دولة فى مقابل رفض 9 دول، وامتناع 35 دولة عن التصويت.
الدول التى صوتت مع أمريكا، وإسرائيل هي: جواتيمالا، وهندوراس، وتوجو، وميكرونيزيا، وناورو، وبالاو، وجزر مارشال.
المفاجأة الوحيدة فى رأيى هى «توجو» دون ذلك لا توجد مفاجآت، فهى دول لها ظروفها ويصعب معرفة أسمائها أو مواقعها على الخريطة.
خرجت السفيرة الأمريكية لدى الامم المتحدة من الاجتماع منفعلة، مؤكدة أنها ستخبر الرئيس الأمريكى بقائمة الدول التى صوتت لمصلحة القرار فى الجمعية العامة.
وأنها سوف تقيم حفل عشاء فى واشنطن لممثلى الدول التى رفضت أو امتنعت عن التصويت لمصلحة القرار.
شيء محزن أن يصل الأمر بالسياسة الأمريكية إلى هذا المستوي، وأن يبلغ انحيازها الاعمى إلى اسرائيل درجة يجعل معها من الصعب أن تكون محل ثقة فى المفاوضات التى تدور لإحلال السلام فى المنطقة.
منذ شهور قليلة كان الرئيس الأمريكى يتحدث عن صفقة القرن وعن اهتمامه بإحلال السلام فى المنطقة، وتنفست شعوب الشرق الأوسط الصعداء، لكن مفاجأة الرئيس الأمريكى وقراره غير المتزن نقل سفارته للقدس اعادا الأمور فى المنطقة إلى نقطة الصفر من جديد، والأخطر من ذلك كله أن أمريكا فقدت مصداقيتها كراعية للسلام فى الشرق الاوسط.
أعتقد أن الرئيس الأمريكى عليه أن يراجع موقف إدارته بشأن الشرق الأوسط، لأنه لو رغب فى استمرار أمريكا فى القيام بدورها فلابد أن يراجع قراراته الأخيرة بشأن القدس، ويمكن أن يكون هناك حل لذلك، وهو الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين بما يتماشى مع قرارات الامم المتحدة والقرار رقم 242، وفى الوقت نفسه التأكيد على أن القدس هى من قضايا الحل النهائى مثلها مثل قضية اللاجئين.
إرجاء زيارة نائب الرئيس الأمريكى التى كانت مقررة إلى المنطقة يعكس إدراك الإدارة الأمريكية لحجم الازمة فى المنطقة بسبب قرار نقل السفارة الأمريكية، ومن المهم أن يستتبع ذلك قرارات تعيد الهدوء إلى المنطقة، وتساعد فى دفع كل الأطراف إلى طاولة المفاوضات للوصول إلى حل عادل وشامل يضمن قيام الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية ضمن حدود دولية معترف بها.
المشكلة أن كل الشواهد حتى الآن لا تشير إلى رغبة حقيقية من الإدارة الأمريكية لتعديل مواقفها، وهو ما يتطلب وعيا عربيا حقيقيا بحقيقة الأزمة وضرورة وضع السيناريوهات اللازمة لمواجهة مواقف الإدارة الأمريكية المتقلبة والحادة.
مصر دائماً تقوم بدور الوسيط النزيه فى المنطقة ولا تريد استقطاباً بها، لكن فى الوقت نفسه على الولايات المتحدة أن تلتزم الحياد، وأن تكف عن صب الزيت على النيران فى وقت تغلى فيه المنطقة ولا ينقصها المزيد.