أشواك و ورود فى الطريق إلى إثيوبيا ! .. بقلم عبدالمحسن سلامة من أديس أبابا

حينما تذهب إلى إثيوبيا لابد أن يكون سد النهضة هو شاغلك الأول والأخير، فالنيل هو قضية حياة أو موت للمصريين، والسد أصبح يشكل هاجسا قويا لدى كل مصرى فيما يخص حصة مصر من مياه النيل، وهل سوف يكون هناك تأثير سلبى على حصة مصر بعد إقامة السد أم لا؟ وما هى السيناريوهات المقبلة فى هذا الإطار؟.

أفكار وتساؤلات تزاحم بعضها البعض ملأت رأسى منذ ركبت طائرة مصر للطيران المتجهة إلى إثيوبيا بصحبة الوفد الصحفى لمتابعة مشاركة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى القمة الإفريقية المنعقدة فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

فى البداية لابد من التأكيد أن مصر لم تكن أبدا ضد التنمية فى إثيوبيا أو غيرها من دول حوض النيل، والكل يعرف أن مصر لم تتأخر إطلاقا عن مساعدة الدول الإفريقية فى كل الأوقات وكل الظروف، وقد قامت مصر بالدور الرئيس والمحورى فى دعم حركات التحرر الإفريقية والتخلص من الاستعمار الأجنبى فى الخمسينيات والستينيات، كما أنها لعبت دورا لا يقل أهمية فى ملف التنمية الإفريقية، وظلت القاهرة تفتح أبوابها لكل الأشقاء الأفارقة بلا استثناء مرحبة بهم رغم كل أوضاع مصر الاقتصادية الصعبة.

لم تكن أبدا إفريقيا خارج نطاق الاهتمام المصري، بل إن هذا الاهتمام بدأ مبكرا منذ عصر حكم محمد على باشا، الذى قام بالعديد من الحملات والاستكشافات المصرية فى إفريقيا، ووصلت القوات المصرية إلى السودان والصومال وإريتريا حتى شمال أوغندا، وقام محمد على بتأسيس مدينة الخرطوم فى الفترة من 1820 وحتى 1825 وبعدها أصبحت الخرطوم عاصمة للسودان عام 1830، وظلت مصر والسودان دولة موحدة لما يقرب من 150 عاما، وحتى عام 1954 بعد الإطاحة بالرئيس محمد نجيب.

أى أن مصر طوال الوقت ومنذ مئات السنين ترى امتدادها الإفريقى وتحافظ عليه، لكن للأسف الشديد جاءت فترة من الفترات انكفأت مصر على نفسها، وتركت الساحة الإفريقية واتجهت غربا، وبطبيعة الحال فإن الفراغ يجد دائما من يشغله فظهرت إسرائيل فى الكادر هناك، كما ظهرت دول أخرى مثل قطر وتركيا وغيرهما من تلك الدول التى تقوم بدور مناوئ للنفوذ المصرى حتى جاءت ثورة 25 يناير التى أدت إلى انهيار الأوضاع فى مصر، لتبدأ إثيوبيا على الفور فى الشروع فى بناء سد النهضة دون تشاور مع الجانب المصرى كما تنص الاتفاقيات التاريخية الموقعة بين الجانبين.

استغلت إثيوبيا حالة الفوضى التى عاشتها مصر بعد ثورة 25 يناير لتقوم ببناء السد وتغيير مجرى النهر قبل أن يصدر تقرير اللجنة المشكلة بالتوافق بين حكومات مصر والسودان وإثيوبيا، ولو أن نيات الحكومة الإثيوبية صادقة لانتظرت إعلان التقرير، وما يسفر عنه من توصيات ثم تتخذ قرارها بعد ذلك.

هذا هو مسلك الحكومة الإثيوبية منذ عام 2011 حتى الآن، تقول شيئاً، وتفعل على الأرض شيئاً مغايراً تماماً لما تقوله مما يثير الشكوك حول نواياها ضاربة بالمواثيق والمعاهدات الدولية عرض الحائط، فهناك اتفاقيات دولية موقعة تضمن حصتى مصر والسودان فى مياه النيل. وطبقا للمبادئ التى أقرتها محكمة العدل الدولية فى لاهاى، فإن اتفاقيات الأنهار والموارد المائية لها الحجية نفسها الخاصة باتفاقيات الحدود، ولا يجوز أن ينتهكها أى طرف، وقد رفضت مصر التوقيع على الاتفاقية الإطارية، وبالتالى فهى غير ملزمة لها، وتبقى الاتفاقيات الدولية التى حددت حصة مصر هى الأصل فى التعامل.

لقد ارتكبت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ يناير 2011 أخطاء قاتلة فى ملف سد النهضة، بلغت ذروتها فى الاجتماع الهزلى الشهير الذى عقده الرئيس المعزول محمد مرسى مع بعض القيادات السياسية آنذاك، وكان محل السخرية من الداخل والخارج، وأسهم فى تعقيد الموقف أكثر وأكثر، حتى جاء الرئيس عبدالفتاح السيسى، وبدأت إدارة مختلفة لهذا الملف الشائك قوامها الحفاظ على حقوق مصر التاريخية من مياه النيل التى تبلغ 55.5 مليار متر مكعب، وفى الوقت نفسه تفهم حق الجانب الإثيوبى فى التنمية والرخاء، ومساندة مصر للأشقاء فى إثيوبيا فى هذا المجال.

 

 

فقط مصر تريد الحفاظ على حقوقها التاريخية من المياه، خاصة أن نصيب مصر الحالى أصبح لا يكفى الاحتياجات المصرية حيث تعانى مصر من الفقر المائى، لأن نصيب الفرد فيها يقل عن 700 متر مكعب، أى أقل من حد الفقر المائى، فى حين أن إثيوبيا لديها 11 حوض نهر بمعدل 1023 مليار متر  مكعب، بما يزيد على احتياجاتها، والحال نفسه فى باقى دول الحوض حيث تتمتع أوغندا بمصادر مائية وفيرة لدرجة أن 17% من الأراضى الأوغندية أراض مغمورة متشبعة بالمياه، كما يوجد فى تنزانيا 200 نهر، ويجرى فى نهر الكونغو 1600 مليار  متر مكعب من المياه سنويا يضيع معظمها فى المحيط، وبالتالى فإن مصر هى الأكثر احتياجا عن غيرها من دول حوض النيل.

المشكلة أن إثيوبيا تنتهج نهجا ملتويا وغير واضح فى ملف سد النهضة، وفى الوقت الذى تؤكد فيه دائما عدم الإضرار بمصر فإنها تتملص دائما مما يتم الاتفاق عليه، وتلجأ إلى التسويف والمماطلة، وللأسف انضمت إليها السودان أخيرا رغم وحدة المصير بين الشعبين المصرى والسودانى.

لقد وقَّعت مصر اتفاق إعلان المبادئ لتأكيد حسن النية للجانب الإثيوبى، والعكس صحيح فهو تأكيد من الجانب الإثيوبى على حسن النية للجانب المصرى، إلا أن سير الأحداث منذ ذلك الوقت يدعو إلى القلق والتوجس من الجانب الإثيوبى، سواء فيما يتعلق بعمل اللجنة الثلاثية المشكلة من مصر وإثيوبيا والسودان، وكذلك فيما يتعلق بعمل المكاتب الاستشارية والدراسات الفنية، وأخيرا الرفض غير المبرر للاقتراح المصرى الخاص بمشاركة البنك الدولى فى متابعة ملف سد النهضة، باعتباره حكما دوليا ليس له مصلحة مباشرة بأى طرف، فقط سوف يقوم بتقديم المشورة الفنية والقانونية للأطراف الثلاثة، إلا أن رد الفعل الإثيوبى برفض المقترح كان صادما ومثيرا للقلق، ويتعارض مع اتفاق إعلان المبادئ الذى ينص على عدم الإضرار بمصالح دولتى المصب مصر والسودان.

زيارة رئيس الوزراء الإثيوبى الأخيرة لمصر منذ عدة أيام جاءت لتخفيف حدة التوتر بين الجانبين، وزيادة التعاون فيما بينهما فى جميع المجالات، وقد أسهمت هذه الزيارة فى تهدئة الأوضاع، ووقف التدهور فى العلاقات بين البلدين، وهذا فى حد ذاته مكسب للطرفين، إلا أن ذلك وحده لا يكفى، لأن هذه السياسة ربما يتم تفسيرها على أنها تدخل فى إطار المراوغة الإثيوبية والمماطلة والتسويف حتى تتغير الخريطة على الأرض، ويصبح السد أمرا واقعا، وهو الأمر غير المقبول على الإطلاق من جانب مصر.

على الجانب الآخر فإن حرص الرئيس عبدالفتاح السيسى على المشاركة فى القمة الإفريقية فى أديس أبابا يظهر إصرار الرئيس على طرق كل الأبواب من أجل التوصل إلى حل عادل لمصر وإثيوبيا معا، يضمن حصة مصر من جانب، ويضمن التنمية والرخاء لإثيوبيا، ولا تعارض بين الاثنين على الإطلاق إذا حسنت النوايا، وتطابقت أفعال الجانب الإثيوبى مع أقواله.

أعتقد أن مشاركة الرئيس فى القمة الإفريقية سوف تفتح الباب لجلسات مفاوضات ومباحثات إضافية مع الجانبين الإثيوبى والسودانى على مستوى الرؤساء بعد أن شهدت العاصمة الإثيوبية مباحثات تمهيدية على مستوى وزراء الخارجية بين الأطراف الثلاثة.

أتمنى أن تكون تلك المباحثات التمهيدية فرصة جيدة للتمهيد للمباحثات بين الرؤساء الثلاثة خاصة بعد كسر جمود الموقف مع السودان الشقيق ولقاء وزير الخارجية سامح شكرى نظيره السودانى إبراهيم غندور، وتأكيدهما عمق العلاقات التاريخية والأخوية بين مصر والسودان، وحرصهما على تحصين تلك العلاقة ضد الاهتزازات، وعدم الانسياق خلف أى شائعات أو معلومات مغلوطة قد تسىء إلى تلك العلاقات.

تبقى ضرورة اقتلاع الأشواك من أمام طريق الورود بين الدول الثلاث: مصر وإثيوبيا والسودان، وأظن أن مصر قد قامت بما يجب أن تقوم به وأكثر فى هذا المجال، والكرة الآن فى الملعب الإثيوبى لتتطابق أفعالها مع أقوالها ليطمئن الشعب المصرى، وتنطلق العلاقات بين البلدين فى إطار من الشراكة الاستراتيجية لمصلحة الشعوب الثلاثة وكل دول حوض النيل.

Back to Top