من منابع النيل إلى أعماق المتوسط !بقلم عبدالمحسن سلامة

 

كان الأسبوع الماضى أسبوعا استثنائيا بمعنى الكلمة، وكانت المياه كلمة السر فيه، فالبداية كانت من منابع النيل فى إثيوبيا حيث عقدت القمة الإفريقية، وبعد أن كانت عضوية مصر مجمدة عقب ثورة 30 يونيو.، تم انتخاب مصر بالإجماع رئيسا للاتحاد الإفريقى عام 2019، وهو الأمر الذى يوضح حجم التقدم والإنجاز الذى تحقق فى علاقات مصر الإفريقية، فمنذ أن تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى المسئولية وهو يضع العلاقات المصرية ـ الإفريقية نصب عينيه، واستحوذت إفريقيا على ما يقرب من 38% من إجمالى تحركاته الخارجية إيمانا منه بخصوصية العلاقة مع دول القارة، وقد نتج عن ذلك تحول استراتيجى مهم فى مكانة مصر الإفريقية، وعادت إلى الصدارة مرة أخري، لتحصل فى النهاية على الإجماع من دول القارة لرئاسة الاتحاد الإفريقى عام 2019.

لم تكن زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى إثيوبيا لحضور القمة الإفريقية زيارة عادية، ورغم ما حققته مصر من نجاح فى هذا الملف، فإن الشغل الشاغل للرئيس كان ملف النيل، والحفاظ على حقوق مصر المائية، وشهدت القمة العديد من الاجتماعات لهذا الغرض مع قادة دول حوض النيل كان أبرزها الاجتماعات الثنائية مع رئيس الوزراء الإثيوبى هايلى ماريام ديسالين، والرئيس السودانى عمر البشير، ثم كان الاجتماع الثلاثى الأهم على الإطلاق فى اليوم الأخير للقمة بين الرؤساء الثلاثة الذى أعاد الثقة إلى الأجواء مرة أخري، وأزال كل النقاط العالقة والملتبسة بين الدول الثلاث، ليخرج الزعماء الثلاثة متشابكى الأيدى مؤكدين المصالح المشتركة للدول الثلاث، ومشددين على قوة ومتانة العلاقات والتعاون بين الدول الثلاث، وخرجت المعلومات لتؤكد أنه تم الاتفاق على آلية تضم وزراء الخارجية والرى من الدول الثلاث واللجنة الوطنية الثلاثية لرفع تقارير نهائية خلال شهر تتضمن حلولا للمسائل الفنية العالقة، بما يضمن التنفيذ الكامل لأحكام اتفاق إعلان المبادئ، وعدم التأثير السلبى على مصالح مصر والسودان المائية.

ليس هذا فحسب بل تم الاتفاق على رفع العلاقات بين الدول الثلاث إلى مستوى استراتيجي، وتحويل الدول الثلاث إلى كتلة اقتصادية موحدة متكاملة شعبيا وسياسيا وبريا ونهريا.

هذه الأنباء تفتح الباب واسعا أمام تغيير استراتيجى فى التعامل مع ملف سد النهضة، والقدرة على تحويله إلى أيقونة للتجمع والمصالح المشتركة بدلا من الصراع والاختلافات التى تهدد مصالح الدول الثلاث.

إثيوبيا بالنسبة لمصر دولة استراتيجية مهمة ففيها منابع نهر النيل أطول أنهار العالم، حيث يبلغ طوله 6650كم، ويمر مساره بعشر دول إفريقية يطلق عليها دول حوض النيل، وله رافدان رئيسيان هما النيل الأبيض والنيل الأزرق، والأخير يبدأ من إثيوبيا وهو يشكل نسبة تتراوح من 80 إلى 85% من المياه المغذية لنهر النيل بعد هطول الأمطار على الهضبة الإثيوبية خلال فصل الصيف، ليبدأ النيل الأزرق من بحيرة تانا فى مرتفعات أثيوبيا بشرق القارة الإفريقية، ويستمر فى مسار طوله 1.400كم حتى يلتقى بالفرع الآخر (النيل الأبيض) ليشكلا معا نهر النيل حتى يصل إلى البحر المتوسط.

الشعب الإثيوبى شعب مسالم يتسم بالهدوء والبشاشة والطيبة، وهو يرفض الإضرار بمصالح مصر المائية، لكنه يرى فى سد النهضة طوق إنقاذ لمشكلاته الاقتصادية خاصة مشكلة الكهرباء التى تعانى معظم مناطق إثيوبيا من عدم وجودها.

على الجانب الآخر فإن مصر لا تعارض التنمية والاستقرار والتقدم فى إثيوبيا، ولكنها فقط تريد عدم الإضرار بمصالحها المائية، وهو ما يؤكده الرئيس عبدالفتاح السيسى دائما، وتمت ترجمة ذلك إلى اتفاق إعلان المبادئ الذى جرى توثيقه بحضور الزعماء الثلاثة لمصر وإثيوبيا والسودان منذ عدة أشهر.

المشكلة أن هناك من لا يريد الاستقرار والتنمية للدول الثلاث، ويحاولون دفع الأمور بعيدا عن مسارها الصحيح، وأعتقد أن الاجتماع الثلاثى الأخير، وما سبقه من اجتماعات ثنائية، وزيارة رئيس الوزراء الإثيوبى لمصر، يمكن أن تكون خطوة إيجابية هائلة تحقق طموح الدول الثلاث لتبدأ صفحة جديدة من العلاقات قوامها الشراكة والتعاون لمصلحة الدول الثلاث.

 

من منابع النيل فى قلب القارة الإفريقية إلى أعماق البحر المتوسط كان الحدث الثانى الأبرز خلال الأسبوع الماضى حينما تم الإعلان عن بدء إنتاج حقل «ظهر» العملاق للغاز.

ميزة حقل «ظهر» أنه من نوعية الاكتشافات الاستثنائية فهو يقع على بعد 200كم من الشواطئ المصرية وفى أعماق البحر المتوسط وقرب نهاية خط الحدود بين مصر وقبرص، ولولا توقيع اتفاقية ترسيم الحدود المصرية ـ القبرصية ما كان يمكن أن يتم اكتشاف هذا الحقل العملاق، وهو ما يؤكد أهمية توقيع اتفاقيات مماثلة مع الدول المجاورة، خاصة اليونان، لفتح الباب أمام الاكتشافات الجديدة المتوقعة فى ظل المؤشرات الإيجابية التى تؤكد تكرار مثل هذه الاكتشافات مستقبلا إن شاء الله.

الميزة الثانية لمشروع حقل «ظهر» أنه مشروع «الأرقام القياسية» حيث استغرق العمل فى المشروع 28 شهرا منذ بدء الكشف وحتى بدء باكورة الإنتاج، مما يمثل إنجازا فريدا، مقارنة بالاكتشافات المماثلة على مستوى العالم التى يستغرق تنفيذها من 6 إلى 8 سنوات، بالإضافة إلى ضخامة استثماراته التى تبلغ 12 مليار دولار، أى أكثر من مائتى مليار جنيه مصري، كما أنه يعد تحولا جذريا فى صناعة الغاز العالمية.

الميزة الثالثة: أنه يؤكد قدرة مصر على تحقيق الإنجاز، حيث أثبت حقل ظهر قدرة الشريك المصرى ممثلا فى الشركات الوطنية على مضاهاة كبريات الشركات العالمية من خلال الأيدى العاملة المصرية التى قبلت التحدي، وقد اشتركت فى هذا المشروع العملاق ثلاث شركات مصرية عملاقة هي: إنبي، وبتروجت، وشركة خدمات البترول البحرية حيث شارك كل منها فى قطاع معين مما أدى إلى سرعة الإنجاز وتحقيق الرقم القياسى فى هذا المجال، بما يؤهل هذه الشركات على المنافسة العالمية فى هذا القطاع خارج مصر، خاصة الدول المجاورة مثل قبرص واليونان والعراق وغيرها من الدول التى ترحب بالشركات المصرية.

الإشادة بالشركات المصرية جاءت على لسان الرئيس التنفيذى لشركة إينى كلاوديو ديسكالزى الذى أكد قدرة الشركات المصرية وتميزها وأن هذه الشركات عملت مع الشريك الأجنبى كفريق واحد مما أسهم فى سرعة الإنجاز.

الميزة الرابعة: أنه سوف يسهم فى توفير 2.7 مليار دولار لمصر سنويا كانت تنفق على استيراد الغاز سنويا وبمعدل 2 مليون دولار يوميا تقريبا، مما يسهم فى توفير تلك المبالغ، ودعم الاحتياطى النقدي.

إلى جانب ذلك فإن هذا الاكتشاف يفتح الباب أمام التوسع فى إدخال الغاز للبيوت المصرية، وإضافة مليون و350 ألف وحدة سكنية جديدة إلى شبكة الغاز كما طلب الرئيس من المهندس طارق الملا وزير البترول فى أثناء الافتتاح.

لقد توقفت مشروعات البحث والتنقيب فى مصر عن الغاز بعد ثورة 25 يناير، وكان الشتاء يحمل معه المعاناة دائما بسبب زيادة الاستهلاك، فكانت الطوابير الطويلة أمام مستودعات الأنابيب هى المشهد اليومى المتكرر، ووصل تراكم الديون للشركات العاملة فى مصر إلى مستوى قياسى بعد أن بلغ نحو 6.3 مليار دولار مما أدى إلى زيادة الفجوة بين العرض والطلب، حتى عادت الأمور إلى مجراها الطبيعى بعد أن تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي، ليبدأ توقيع اتفاقيات البحث والاستكشاف والتى بلغت 83 اتفاقية، منها اتفاقية منطقة «شروق» مع شركة اينى التى يقع فيها حقل «ظهر»، كما انخفضت مديونيات الشركات إلى 2.4 مليار دولار، بالإضافة إلى تطوير المعامل، وزيادة معدلات توصيل الغاز الطبيعى للمنازل.

بشائر الخير بدأت فى الظهور من منابع النيل فى قلب القارة الإفريقية لتستكمل المسيرة فى قلب البحر المتوسط وعلى أبعد نقطة من الحدود المصرية وكلمة السر واحدة وهى المياه، والفرق الوحيد أن مياه النيل عذبة ومياه البحر مالحة، وكلتاهما تحملان الخير لمصر وشعبها دائما وأبدا إن شاء الله.

Back to Top