من نووى العراق إلى كيماوى سوريا... بقلم :عبدالمحسن سلامة

 

حتى الآن لم تظهر أى علامات تشير إلى احتمال تورط النظام السورى فى ارتكاب جرائم تتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية فى دوما والغوطة الشرقية، كما زعمت أمريكا فى تبريرها الضربة الجوية التى أقدمت عليها بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا.

المشكلة ليست فى الضربة التى حدثت فقد كانت ضربة «فشنك» محدودة الأثر والفعالية، لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى العقلية التى لاتزال مسيطرة على أمريكا، وبعض حلفائها فى التعامل مع المنطقة العربية والتدخل الدائم فى شئون بلدانها، ومحاولة تغيير أنظمتها بالقوة العسكرية، فى وقت استبشرنا فيه خيرا بقدوم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بعد أن أعرب عن غضبه من سلوك الإدارات الأمريكية السابقة، وتدخلها فى شئون الدول العربية، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك حينما قام بتحميل تلك الإدارات السابقة مسئولية الفوضى التى تعانيها المنطقة، وما آلت إليه من سوء الأوضاع، وانتشار الخراب والدمار فيها.

للأسف عاد ترامب ليرتكب الحماقات نفسها وينهج السياسات نفسها التى كان ينتقدها ويندد بها، ويرفضها جملة وتفصيلا.

ظهر ذلك فى الموقف الأخير حينما أقامت الإدارة الأمريكية الدنيا ولم تقعدها تحت دعوى استخدام النظام السورى الأسلحة الكيماوية، وضرورة الانتقام منه وتأديبه، ولم تهدأ الأمور إلا بعد توجيه الضربة العسكرية، رغم أنه حتى الآن لم تنته بعد أعمال اللجنة التى تقوم بفحص المناطق المزعوم استخدام الأسلحة الكيماوية بها، وبالتالى لم تظهر نتائج هذه الأعمال.

لقد وصلت بعثة من مفتشى حظر الأسلحة الكيماوية إلى مدينة دوما السورية، وعلى مدى الأيام الماضية قامت بالعديد من الجولات فى المناطق السورية، وطبقا لبيان منظمة حظر الأسلحة الكيماوية فإن خبراء المنظمة قاموا بزيارة موقع الهجوم المفترض، وأخذوا عينات للتحليل ولاتزال البعثة تعمل هناك حتى الآن.

على الجانب الآخر فإن هناك تقارير عديدة خرجت لتؤكد «فبركة» قصة الهجوم الكيماوي، وهو ما أكده وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، مشيرا إلى أن السلطات السورية تخلصت من ترسانتها الكيماوية، وتتعاون من أجل القضاء على هذا النوع من الأسلحة، متهما واشنطن «بفبركة» هذه الأخبار للتدخل فى الشأن السوري، كما خرج السفير الأمريكى السابق فى سوريا بيترفورد ليؤكد نفس الاتجاه وزيف ادعاءات الكيماوى على شاشة فوكس نيوز الأمريكية قائلا: صحفيون غربيون زاروا مدينة دوما للبحث عن الحقيقة، ولم يعثروا على دليل بوقوع هجوم كيماوى فى المدينة، مشيرا إلى أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب استند إلى معلومات مضللة فى قراره بقصف سوريا.

أزمة الفوضى فى العالم العربى بدأت مع غزو العراق عام 2003 بعد أن قامت أمريكا وحلفاؤها باستصدار القرار رقم 1441 فى الثامن من نوفمبر عام 2002، والخاص بالتفتيش على الأسلحة فى العراق وتحذير العراق من عواقب وخيمة نتيجة استمرار انتهاك التزاماته.

هذا القرار ورغم أنه لم يشر إلى غزو العراق من قريب أو بعيد فقد استخدمته الولايات المتحدة كذريعة للتدخل فى العراق والإطاحة بالنظام العراقي، فى وقت رفضت فيه العديد من الدول المشاركة فى الغزو بسبب عدم وجود قرار صريح وواضح من مجلس الأمن بذلك، بالإضافة لعدم استنفاد جميع الوسائل السلمية من أجل اتمام مهمة المفتشين الدوليين للتأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل. تم غزو العراق واحتلاله وتفتيته رغم أن التقارير النهائية خرجت لتؤكد عدم وجود أسلحة للدمار الشامل فى العراق، وانما كان الأمر كله يتعلق بالتكهنات والشائعات.

الحقيقة أن الأمر كان يتعلق بقرار معد سلفا، وسابق التجهيز لضرب العراق وغزوه، وتدميره، وسقوط دولته، و«لبننته» والأخيرة هى المصيبة الكبرى التى وقعت فى العراق، وحتى الآن لم تنج منها، بعد أن تم زرع الفتنة الطائفية ما بين شيعة وسنة وأكراد.

صحيح أن العراق الآن بدأ فى التعافى لكن المشكلة الكبرى هى سرطان «الطائفية» و«المحاصصة»، و«الفتنة» التى دخلت إلى الجسد العراقى وسكنت فيه، وتحتاج إلى عقود طويلة قبل طردها من هناك ليعود العراق كما كان واحدا، موحدا، لكل الشعب العراقي.

 

الحال نفسها حدثت فى ليبيا حينما قامت أمريكا وحلفاؤها باستصدار القرار 1973 من مجلس الأمن، والذى قضى بفرض منطقة حظر جوى فوق ليبيا، ويجيز استخدام «كل الإجراءات اللازمة» ضد نظام الزعيم الراحل معمر القذافى لمنع قواته من شن هجمات على المدنيين.

هذا هو الادعاء الذى تم استخدامه لشن هجمات على ليبيا ليسقط النظام الليبى هو الآخر وتتحول ليبيا إلى فوضى منذ سبعة أعوام حتى الآن دون بريق فى نهاية النفق المظلم الذى تعيش فيه، فهناك أكثر من دولة وأكثر من حكومة، وهناك جيش وطنى يتزعمه المشير خليفة حفتر يحاول جاهدا إعادة إصلاح ما أفسدته أمريكا والحلفاء فى ليبيا، لكن لاتزال المهمة شاقة ومعقدة أمامه حتى الآن.

الذين تبنوا حصار ليبيا وضربها يرفضون حتى الآن رفع حظر توريد الأسلحة عن الجيش الليبي، ويضعون العراقيل أمام استكمال مهمة الجيش الليبى فى توحيد ليبيا.. ليس هذا فقط بل إنهم أخيرا أطلقوا حملة من الشائعات المغرضة الخبيثة حول مصير المشير خليفة حفتر.

صحيح الأعمار بيد الله، لكن الشائعات هدفها المزيد من الفوضى داخل ليبيا، وعرقلة عودة الجيش الليبى لاستكمال مسيرة توحيد الفصائل الليبية تحت راية موحدة.

للأسف فإن الوضع فى سوريا بات معقدا للغاية بعد أن تحولت إلى منطقة صراع دولى وإقليمى بالوكالة، فالقوتان الكبريان فى العالم (أمريكا وروسيا) تستعرضان قوتهما على الأراضى السورية، فهناك أكثر من 13 قاعدة عسكرية أمريكية تنتشر فى العديد من المناطق السورية، وتسيطر تقريبا على ما يقرب من 25% من مساحة سوريا بشكل مباشر أو من خلال الدعم والحماية لقوات سوريا الديمقراطية وبعض فصائل الجيش الحر، فى حين أن روسيا تقوم بدعم الرئيس السورى بشار الأسد وحكومته، وتقوم بدور كبير فى استعادة المناطق التى تسيطر عليها الفصائل المسلحة التى تتبع التنظيمات المتطرفة.

إلى جوار القوى الدولية فهناك قوى إقليمية أخرى تلعب دورا كبيرا فى الأزمة السورية خاصة إيران وتركيا بشكل مباشر أو غير مباشر، مما يزيد من حدة تعقيد الأزمة وصعوبة حلها مستقبلا.

أما فيما يخص الفصائل السورية فهناك أعداد كبيرة من الفصائل المسلحة التى ترفع راية الثورة فى حين أنها تقوم بأدوار تبعية بالوكالة للأطراف الدولية والاقليمية، حيث يتصارع هناك العديد من التنظيمات الجهادية والتكفيرية مثل جبهة النصرة، ولواء صقور الإسلام، ولواء الإسلام، وجيش الإسلام، وتنظيم القاعدة، وداعش، بالإضافة إلى الجيش السورى الحر، وقوات حماية الشعب الكردية وقوات حزب الله، وغيرهم الكثير والكثير.

هذا هو واقع الحال المرير فى سوريا نتيجة التدخلات الأجنبية، والتآمر على المنطقة العربية، والذى أدى إلى خلق هذا الواقع المأساوى والمرير الذى تعيشه الشعوب العربية فى العراق واليمن وليبيا وسوريا.

الرئيس عبدالفتاح السيسى كان محددا وواضحا منذ البداية فى التعامل مع الملف السوري، وبخبرته الطويلة يعلم حجم المؤامرة التى تحاك ضد العالم العربي، لذلك فمصر مع وحدة الأراضى السورية، وعدم التدخل فى الشأن الداخلى السورى، وأن الشعب السورى هو وحده صاحب الحق الأصيل فى تقرير مصيره.

موقف مصر ينبع من شعور الشعب المصرى بمعاناة الشعب السوري، وحجم تضحياته التى فاقت كل التوقعات منذ اندلاع أعمال الفوضى والعنف هناك وحتى الآن.

القصة لا تتعلق بالرئيس بشار الأسد، لكنها تتعلق بوحدة دولة، ومعاناة شعب آن أن يجد بريقا من أمل لنهاية تلك المعاناة.. دروس قاسية ومريرة عاشتها الشعوب العربية، ولاتزال المؤامرة مستمرة، سواء فى الدول التى وقعت فريسة للفوضى أو التى نجت منها.

المشكلة فى رأيى لا تتعلق بالدول الكبرى والإقليمية التى تتآمر على الشعوب العربية وتريد للعالم العربى أن يتحول إلى ركام، لكنها تتعلق بالشعوب العربية ذاتها التى ينساق بعض من أبنائها للأسف الشديد إلى أداة لتنفيذ تلك الخطط التآمرية اللعينة التى نجحت فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، ولاتزال تتربص بباقى الدول العربية، ولن تفشل تلك المخططات الشريرة إلا بإعادة ترتيب أوراق العقل العربى من جديد وعودة الوعى بأهمية الدولة الوطنية والحفاظ عليها مهما تكن الصعاب والتحديات.

Back to Top