السيقان المبتورة.. جريمة جديدة وصمت مريب .. بقلم : عبدالمحسن سلامة
أخيرا ابتكرت إسرائيل جريمة حرب جديدة لا تقل بشاعة عن جرائمها السابقة، وهى جريمة تفتيت عظام سيقان الشباب الفلسطيني، الذى يتظاهر سلميا، ويطالب بحق العودة، وإقامة الدولة الفلسطينية، وخلال الفترة الماضية سقط ما يزيد على أربعين شهيدا فلسطينيا وآلاف الجرحي، وبين هذا وذاك استهدفت القوات الإسرائيلية 2200 من الشباب الفلسطينى بإطلاق نيرانها على الأطراف السفلية لهم، وهو ما أدى إلى بتر سيقان 17 فلسطينيا على الأقل خلال المرحلة الماضية، بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية.
لقد رصدت صحيفة «واشنطن بوست» تلك الجريمة تحت عنوان «أطراف مبتورة وأحلام محطمة»، أشارت فيه إلى أنه خلال مظاهرات الشهر الماضى على طول الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل تعرض 17 فلسطينيا على الأقل لإطلاق نيران كثيف كلفهم فى نهاية الأمر سيقانهم، بعد أن رفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلية نقل المتظاهرين الجرحى إلى المستشفيات المجهزة لعلاج مثل هذه الحالات من الإصابات فى الضفة الغربية، مما استدعى بتر أطرافهم للحفاظ على حياتهم، ومن بين هؤلاء العديد من الشباب الذى كان يمارس رياضة العدو وحصل على ميداليات محلية وعالمية فيها.
جريمة عنصرية قبيحة بحق شباب يتظاهر سلمياً داخل المناطق المحتلة، بينما لم يثبت أن هؤلاء الشباب رفعوا السلاح، أو لجأوا إلى العنف خلال تلك المظاهرات بحسب تقارير وبيانات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان. وقد أكد مفوض الأمم المتحدة السامى لحقوق الإنسان «أن على إسرائيل أن تضع حدا لاستخدام قواتها الأمنية القوة المفرطة على الحدود مع قطاع غزة، وأن تحاسب المسئولين عن سقوط العدد الكبير من القتلى والمصابين الفلسطينيين خلال الشهر الأخير» مشيرا إلى أن «فقد الأرواح أمر يستحق الشجب، وعدد الإصابات الصادم جراء الذخيرة الحية يؤكد استخدام القوة المفرطة مع المتظاهرين.. ليس مرة أو اثنتين بل مرارا وتكرارا».
التقارير تشير إلى أن القوات الإسرائيلية تستخدم أسلحة محرمة فى ضرب المتظاهرين مثل «الدمدم» أو «الرصاص الانشطارى المتفجر» رغم أنه محرم دوليا، إلا أن الجنود الإسرائيليين لا زالوا يطلقون هذا الرصاص بواسطة قناصة محترفين مركزين على المناطق العلوية والسفلية من جسم الإنسان، فإذا أصاب المناطق العلوية فإنه يؤدى إلى تهتك الأحشاء والوفاة، وإذا أصاب الأجزاء السفلية فانه يؤدى لتهشم العظام بشكل حاد مما يجعل العلاج مستحيلا إلا ببتر الطرف المصاب حفاظا على حياته ليعيش مبتور الساق أو الساقين بقية عمره.
هذا السلاح محرم دوليا منذ عام 1868 عندما خرج تصريح بطرسبورج بتحريم استعمال الرصاص المتفجر «الدمدم»، وأيد ذلك مؤتمران دوليان عقدا فى لاهاى بهولندا سنة 1899، وعام 1907 «مبادى بطرسبورج».
رغم ذلك فقوات الاحتلال لا تزال تستخدم تلك النوعية من الأسلحة المحرمة التى تؤدى إلى إحداث تهتك وتهشم واسعين بعظام المصاب وكذلك الأنسجة والأوردة، ويكون الحل الوحيد أمام الأطباء الذين يعملون فى ظروف غاية فى القسوة والمعاناة هو بتر سيقان الشباب لتترك تلك الإصابات إعاقات بدنية خطيرة طويلة المدى، وتحطيم نفوس الشباب وأحلامهم، وضياع مستقبلهم.
تفعل إسرائيل كل ذلك وسط صمت دولى مريب، رغم مطالبة السفير الفلسطينى لدى الأمم المتحدة رياض منصور الأمم المتحدة بإجراء «تحقيق مستقل وشفاف» فى ملابسات مقتل المتظاهرين الفلسطينيين خلال المظاهرات والاحتجاجات على طول الحدود الفلسطينية الإسرائيلية.
وأضاف أنه «ينبغى على هذه الدعوات اتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة الجناة، ومنع تكرار مثل هذه الجرائم ومنع وقوع المزيد من الخسائر فى أرواح الأبرياء من أجل ردع إسرائيل ومنعها من مواصلة ارتكابها الجرائم الجسيمة والممنهجة، بما فى ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التى ترتكبها بطرق مقيتة وغير أخلاقية».
يصمت العالم على تلك الجرائم الوحشية فى وقت «قامت الدنيا فيه ولم تقعد» حتى الآن بسبب تصريحات للرئيس الفلسطينى محمود عباس اعتبروها «معادية للسامية» حينما اقتبس كلاما للمفكر الألمانى كارل ماركس جاء فيه أن «المكانة الاجتماعية لليهود فى أوروبا وعملهم فى قطاع البنوك والتعامل بالربا، أدت إلى معاداة السامية، وبدورها إلى مذابح فى أوروبا». «هاجت الدنيا وماجت» كما يقولون، واتهم المسئولون الإسرائيليون عباس بتأجيج الكراهية الدينية والوطنية ضد الشعب اليهودى وإسرائيل، وخرج المبعوث الأمريكى الخاص إلى الشرق الأوسط ليندد بتلك التصريحات، وكذلك فعل الاتحاد الأوروبى على لسان المتحدث باسم الجهاز الدبلوماسى فى الاتحاد الأوروبى الذى أصدر بيانا أشار فيه إلى أن مثل هذا الخطاب لن يفيد سوى هؤلاء الذين لا يرغبون فى حل الدولتين.
الغريب أننا لم نسمع صوتا لهذا أو ذاك أمام المجازر الإسرائيلية للشعب الفلسطينى واستخدام قوات الاحتلال الأسلحة المحرمة دوليا ومقتل 43 فلسطينيا وبتر أطراف ما يقرب من 20 فلسطينيا آخرين، بالإضافة إلى آلاف الجرحي. حل الدولتين الذى يتحدثون عنه يتطلب عدالة ومصداقية من جميع الأطراف، تجاه الممارسات الخاطئة للطرفين، فإذا كان محمود عباس قد جانبه الصواب فى تصريحاته، فلابد من ادانة القتلة الإسرائيليين، ومحاسبتهم، ووقف عدوانهم على المتظاهرين الفلسطينيين، وتحميل إسرائيل كامل المسئولية عن القتلى والمصابين طوال فترة الاحتلال وحتى مسيرات العودة التى تقام كل يوم جمعة تنديدا بالاحتلال الإسرائيلى ورفضا لقرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المقرر له يوم 14 مايو الحالى.
لابد أن تراجع أمريكا سياستها الخاطئة بالمنطقة بعد أن فشلت سياسة الكيل بمكيالين، فلازال الصمود الفلسطينى يزداد يوما بعد يوم رغم مرور 70 عاما على قيام دولة إسرائيل عام 1948، ثم ابتلاع باقى الأراضى الفلسطينية عام 1967.
أداء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب جاء مخيبا للآمال، فقد تسرع فى الالتزام بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وادعى أن هذا القرار سوف يخدم السلام، وحتى الآن هو يصر على قراره بل هناك بعض التقارير التى خرجت لتشير إلى احتمال زيارته إسرائيل أثناء نقل السفارة متحديا كل دول العالم التى رفضت هذا القرار العشوائى حينما حصل مشروع القرار الذى قدمته مصر إلى مجلس الأمن فى شهر ديسمبر من العام الماضى على دعم 14 عضوا بمجلس الأمن واستخدمت أمريكا حق النقض «الفيتو» لإجهاضه، مما شكل لطمة قوية للسياسة الأمريكية المنحازة لإسرائيل حيث وقفت وحيدة فى مجلس الأمن لم يساندها أحد من الأعضاء، ولجأت إلى «الفيتو» لإنقاذها من المأزق الذى وضعت نفسها فيه.
ما حدث فى مجلس الأمن انتقل إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التى صوتت بأغلبية كاسحة لمصلحة مشروع قرار يحث الولايات المتحدة على سحب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وجاء التصويت بموافقة 128 دولة فى مقابل رفض 9 وامتناع 35 عن التصويت رغم هذيان السفيرة الأمريكية نيكى هيلى مندوبة الولايات المتحدة وتهديدها للدول التى أيدت القرار.
أحداث عصيبة تعيشها دول المنطقة منذ فترة طويلة لا تستفيد منها سوى إسرائيل، ولأول مرة تصبح إسرائيل فى المنطقة الدافئة تماما فى حين تشتعل الأزمات والأحداث الإرهابية داخل دول المواجهة خصوصا والدول العربية عموما، ولذلك فمن المهم أن تفيق الفصائل الفلسطينية من غيبوبتها، وتتخذ ما يجب من إجراءات لإنهاء الفرقة والتشرذم داخل صفوفها، فلا يصح إطلاقا أن تكون هناك دولتان وحكومتان وفصائل متنوعة وعديدة، فى وقت تقوم فيه قوات الاحتلال الإسرائيلى بقتل الشباب الفلسطينى وبتر أطرافهم. لقد بذلت مصر جهودا ضخمة من أجل المصالحة الفلسطينية إلا أن هناك من الأطراف من يعرقل استكمال خطوات المصالحة، فى قت تزداد الأمور تعقيدا على المستوى الدولى، خاصة مع قرب إتمام نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
على الفلسطينيين الآن وفورا العودة إلى مصر، واستكمال ملف المصالحة، والالتزام بكامل بنودها، وإنهاء الفرقة والتشرذم، لتوحيد النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، والانحياز الأمريكي، والصمت العالمى المريب على الجرائم الإسرائيلية.