المستحيل والممكن فى الإصلاح الاقتصادى... بقلم :عبدالمحسن سلامة
أحاديث كثيرة لا تتوقف عن ضرورات استكمال مسيرة الإصلاح الاقتصادي، ومحاذيره، وآثاره الإيجابية والسلبية، فهناك ضرورات فرضت الإصلاح فرضا بعد أن كان الاقتصاد المصرى مهددا بالإفلاس والانهيار نتيجة السنوات العجاف التى أعقبت ثورة 25 يناير بفعل الفوضى والانفلات والتخريب والإرهاب، وتوقف عجلة العمل والإنتاج، وضرب السياحة فى مقتل، وكلها عوامل أدت إلى تآكل الاحتياطى النقدي، وعدم وجود عملة صعبة لاستيراد السلع الأساسية فى دولة تستورد 70% تقريبا من احتياجاتها بما فيها الفول والعدس والزيت واللحوم وغيرها من السلع الأساسية للمواطن فى حياته اليومية.
فعلها الرئيس عبدالفتاح السيسى واتخذ القرار الأصعب، وربما كان القرار المستحيل لينقذ الاقتصاد المصرى من الانهيار والإفلاس بعد أن تأخر هذا الإصلاح أكثر من ستة عقود كاملة، ومنذ أن اتجهت مصر شرقا، وعرفت لأول مرة فى تاريخها «كوبونات الدعم» التى تحولت إلى جبل من الثلج يدمر قدرات الاقتصاد المصري، حتى جاءت لحظة المكاشفة، وإما أن يكون هناك إصلاح حقيقى أو الدمار والخراب، فكان انحياز الرئيس إلى الإصلاح وإنقاذ مصر وشعبها واقتصادها.
قدم الشعب المصرى ولايزال نموذجا حضاريا فى التعامل مع ملف الإصلاح الاقتصادي، حينما تحمل بوعى وشجاعة تبعات قرارات الإصلاح الاقتصادي، رغم كل الدعاوى الخبيثة التى لا تريد الخير لهذا البلد، والتى تبث سمومها ليلا ونهارا، من أجل أن تتحول مصر إلى سوريا جديدة ـ لا قدر الله ـ يكون فيها الشعب هو الضحية لبارونات أدعياء النضال والمتآمرين من كل لون وطيف.
نتيجة هذا الوعى نجح الاقتصاد المصرى فى تخطى أصعب مرحلة ليعود مرة أخرى إلى مرحلة الاستقرار الاقتصادى بعد نجاح سياسة الإصلاح النقدى والمالى واستقرار سعر الصرف، وإلغاء جميع القيود على النقد الأجنبي، ووصول الاحتياطى النقدى لأول مرة فى تاريخه إلى 44 مليار دولار بنهاية شهر إبريل الماضى نتيجة إجراءات الإصلاح الاقتصادي، وتحرير سعر الصرف، وزيادة الإيرادات من السياحة، وعائدات قناة السويس، وتحويلات المصريين بالخارج، وزيادة الاستثمارات الأجنبية فى مصر.
لقد قام صندوق النقد الدولى بتعديل توقعاته على نمو الاقتصاد المصرى من 4.8% إلى 5.2%، وأشاد بانخفاض التضخم من 11.9% إلى 10.4%، كما توقع انخفاض معدل البطالة من 11.1% هذا العام إلى 9.7% فى العام المقبل، كما أنه تم خفض العجز الكلى بالموازنة العامة، وتحقيق فائض أولى لأول مرة منذ 7 سنوات بنسبة 1٫5% من إجمالى الناتج المحلى.
كل هذه التطورات انعكست إيجابيا على التصنيف الائتمانى للاقتصاد المصرى وتحويله من سالب إلى موجب مما يمهد إلى تحقيق الطفرة التنموية للاقتصاد المصرى خلال المرحلة المقبلة.
السؤال الآن: إذا كان هناك ضرورة للإصلاح الاقتصادى فهل يتم الاكتفاء بما حدث، والوصول إلى هذه النتيجة، والتوقف عند هذا الحد، أم يتم استكمال خطوات الإصلاح الاقتصادى؟!
للأسف الشديد هناك من يريد توقف عجلة الإصلاح بحسن أو بسوء نية، فيما يخص أصحاب سوء النية فمقاصدهم معروفة وهم لا يريدون الخير لمصر وشعبها، وان تظل مريضة فى أحسن أحوالها، أما هؤلاء حسنو النية فهم يخشون من استمرار خطوات الإصلاح بما يحمله من تحرير فى أسعار السلع والخدمات، واحتمال قدوم موجات جديدة من ارتفاع الأسعار، وعدم قدرتهم على تحمل المزيد من الأعباء فى المأكل أوالملبس أو المشرب أو المواصلات، ومعظم هؤلاء ينتمون إلى الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وهما الطبقتان الأكثر تحملا لأعباء فاتورة الإصلاح الاقتصادي.
هؤلاء معذورون بطبيعة الحال بعد أن باتت قدرتهم على تحمل المزيد من الأعباء صعبة، خاصة فى ظل ثبات الأجور وضيق فرص العمل، وارتفاع الأسعار.
هو تحد صعب أمام الحكومة لكنه أقل صعوبة مما مضي، وفى تصورى أن توقف مسيرة الإصلاح الاقتصادى أمر كارثى بكل معنى الكلمة لأن هذا يعنى ببساطة قطع نصف الطريق، والارتداد مرة أخرى إلى نفس السياسات التى طالما عانى منها الاقتصاد المصرى على مدى العقود الماضية، لتزداد الأوجاع والأمراض الاقتصادية مرة أخري، ونقترب من حافة الهاوية مرة أخري، وهكذا تعود العجلة إلى الخلف كما كانت دون أن ندرى أو نشعر انحيازا للمثل الشعبى اللعين «عيشنى النهاردة وموتنى بكرة» وهو مثل لعين بكل معنى الكلمة، لأن غدا أو «بكرة» سوف يأتى غدا، فالفكرة كلها ببساطة هى تأجيل الموت إلى غد، وتلك فكرة ساذجة لا تصلح لعلاج أوجاع الدول والشعوب.
من أجل ذلك لا بديل عن استكمال خطوات الإصلاح الاقتصادى دون خوف أو تردد، فمن غير المعقول ولا المقبول أن نتجاوز «المستحيل» فى الإصلاح الاقتصادى ثم نتوقف عند «الممكن» رغم صعوبته وقسوته أحيانا.
فقط على الحكومة وهى تستكمل خطة الإصلاح الناجحة التى أنقذت الاقتصاد المصرى بشهادة المختصين عالميا ومحليا ـ أن تراعى الآثار الجانبية لخطوات الإصلاح المقبلة بما يؤدى إلى تخفيف الضغط على الطبقتين المتوسطة والفقيرة.
والبداية فى تصورى هو أن يكون هناك إصلاح ضريبى شامل، لأن ملف الضرائب فى مصر يعبر بوضوح عن الخلل الجسيم فى المجتمع، ويؤكد عدم وجود عدالة اجتماعية منذ فترة طويلة، وهو ملف موروث ومتراكم منذ عقود ويتماشى مع سياسة التخبط والعشوائية التى كانت تسكن جسد الاقتصاد المصري، فالأرقام تشير إلى أن حجم التهرب الضريبى يصل إلى نحو 400 مليار جنيه، أى نحو 22 مليار دولار بسعر السوق الآن، وهو مبلغ ضخم وخطير يسهم بالتأكيد فى سد عجز الموازنة، ويؤدى إلى ز يادة وتحسن الخدمات والمرافق الحكومية والعامة، ومد شبكات الطرق والصرف الصحى والغاز، وتمويل متطلبات خطة تطوير التعليم المرتقبة وزيادة مخصصاته، وتوفير شبكة حماية أفضل لمحدودى الدخل والفقراء، ومد مظلة التأمينات والرعاية الاجتماعية لقطاع كبير من المحرومين من هذه الخدمات أو زيادة المخصصات للمستفيدين حاليا.
على الحكومة أن تبدأ من الآن وفورا إعداد خطة ضريبية حديثة ومتطورة تحقق العدالة لكل المصريين فمن غير الطبيعى أن يظل ما يقرب من 50% من الاقتصاد المصرى خارج التغطية الضريبية لأنه نشاط غير رسمى أو كما يطلق عليه الاقتصاد الهامشى «بير السلم» وهو منتشر فى طول البلاد وعرضها بعيدا عن سمع وبصر السادة المسئولين.
المنتظمون فى سداد الضرائب فئة قليلة من المجتمع خاصة هؤلاء الذين يتقاضون رواتب وأجورا منتظمة، سواء من الحكومة أو القطاعين العام والخاص أو حتى الاستثماري، وأما دون ذلك فهناك من لا يدفع ضرائب أصلا، وهناك من يدفع «الفتات» نتيجة التلاعب فى السجلات وعدم الالتزام بتقديم الفواتير فى معظم المحال، ويخلطون بينها وبين الورقة التى تخرج من ماكينة النقود فى تلك المحال.
بالإضافة إلى ذلك لابد أن تفكر الحكومة وبجدية فى فرض الضرائب التصاعدية، وهو نظام مطبق فى معظم الدول الرأسمالية، وفى أمريكا مثلا هناك 3 أنواع من الضرائب (ضرائب مركزية، وأخرى تتبع الولاية، وثالثة تتبع المدينة)، وبحسب ظروف كل ولاية يتم تطبيق الضرائب وبشكل تصاعدي، وأمريكا أم الرأسمالية والاقتصاد الحر، وبالتالى لا خوف من هروب الاستثمار والمستثمرين كما يردد أصحاب المصالح حتى يستمر عدم العدالة الضريبية، وأعرف العديد من رجال الأعمال الوطنيين المخلصين لوطنهم يطالبون بالضريبة التصاعدية لأنها مطبقة على استثماراتهم فى بعض دول العالم ومنها أمريكا.
العدالة الضريبية لا تعنى المصادرة، أو التضييق على حركة رأس المال، أو تلك الأفكار التى انهارت إلى غير رجعة من الأفكار الشمولية والاشتراكية، وروسيا خير مثال على ذلك، فهى الآن تنتهج اقتصاد السوق، وأصبح الحزب الشيوعى مجرد حزب تاريخى معارض لن يصل مرة أخرى إلى السلطة وهو إلى زوال.
اقتصاد السوق يحتاج إلى نظام ضريبى عادل لا يترك أحدا من المستحقين خارجه، لأن العدالة الضريبية هى الوجه المشرق للعدالة الاجتماعية، وفى الوقت ذاته سوف تساعد على استكمال مسيرة الإصلاح الاقتصادى وتخفيف آثاره الجانبية.
إلى جوار العدالة الضريبية لابد من تشديد الرقابة على الأسواق وخلق نظام جديد يضمن حدودا لهامش الربح، ولعل الخطوة التى اتخذها الوزير على المصيلحى وزير التموين بضرورة الإعلان عن أسعار السلع كانت ضرورية، إلا أنها اختفت كما بدأت، ولم يعد هناك من يلتزم بها.
لابد من رقابة على الأسواق تضمن عدم المغالاة فى الأسعار وهامش الربح، وليس معنى ذلك العودة إلى التسعيرة الجبرية، لأنها نظام فاشل ويؤدى إلى اختفاء السلع، ولكن على الأقل لابد من إلزام التجار بالإعلان عن أسعار السلع بوضوح والالتزام بمواصفات الجودة وهامش الربح كما هو حادث فى كل الدول المتقدمة.
إلى جوار ذلك لا مانع من التدخل الحكومى لتحقيق التوازن فى الأسعار، خاصة فى السلع الأساسية وقت الأزمات، وهو ما يفعله جهاز الخدمة الوطنية فى الكثير من الأماكن، ومن المهم التوسع فى تلك السياسة، سواء من خلال جهاز الخدمة الوطنية أو الجهات التى تتبع وزارات التموين والزراعة أو غيرهما من الجهات المعنية.
لقد قطعت الحكومة «الشوط» المستحيل فى ملف الإصلاح الاقتصادى بنجاح غير مسبوق، ويبقى الشوط «الصعب» لكنه «ممكن» فى هذا الطريق، ولابديل عن تكاتف المواطنين مع الحكومة لاستكمال مسيرة الإصلاح الاقتصادى مهما تكن الصعاب والتحديات ليجتاز الاقتصاد المصرى السنوات العجاف إلى الأبد إن شاء الله.