أسس الشراكة الإستراتيجية بين القاهرة والخرطوم

بقلم:عبد المحسن سلامة

بلغة التاريخ فإن العلاقة بين مصر والسودان ممتدة عبر آلاف السنين، وبلغة الجغرافيا فالحدود المشتركة طويلة، فهناك حدود برية يمتد طولها لنحو 1276 كيلو مترا تقريبا، حيث يقع السودان على حدود مصر الجنوبية، كما تشترك مصر والسودان فى مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن والذى تأسس فى الرياض العام الماضى ويضم 8 دول هى (مصر، السعودية، السودان، اليمن، الصومال، اريتريا، الأردن، وجيبوتى).

أما بلغة المصالح، فالمصالح قوية ومتبادلة بين الدولتين بحكم المصاهرة والنسب، وتداخل القبائل على الحدود بين الدولتين، كما توجد جالية سودانية ضخمة بمصر منذ عقود طويلة، وقبل كل ذلك وبعده هناك نهر النيل، ذلك النهر الخالد الذى يجمع بين الدولتين منذ آلاف السنين، وكان دائما مصدرا للخير والنماء والمصلحة المشتركة بين الشعبين "شعب وادى النيل".

الآن مصر والسودان فى أشد الحاجة إلى التنسيق، ووحدة المواقف فى مختلف المجالات وتحويل حجم القواسم المشتركة الهائل بين الدولتين إلى وقائع ملموسة على الأرض ضمن آليات عمل جديدة، لتتحول الدولتان معا إلى رافعة قوية عربيا وإفريقيا فى إطار نموذج مكتمل الأركان للعلاقات بين الدولتين الشقيقتين.

فى الأسبوع الماضى زار الرئيس عبد الفتاح السيسى الخرطوم فى أول زيارة رسمية له بعد تشكيل مجلس السيادة السودانى، وقبلها بأيام قليلة تم توقيع اتفاقية التعاون العسكرى بين مصر والسودان مما أعطى للزيارة زخما من نوع خاص فى إطار التحديات التى تواجهها الدولتان معا فى تلك المرحلة.

الزيارة شهدت تبادل الرؤى حول مختلف القضايا سواء فيما يتعلق بقضايا التعاون المشترك أو القضايا الإقليمية والدولية.

الرسالة الأبرز والأقوى التى خرجت من تلك القمة هى وحدة الرؤية فيما يتعلق بسد الأزمة الإثيوبى، حيث شددت القمة على رفض أى إجراءات أحادية إثيوبية تهدف إلى فرض الأمر الواقع، والاستئثار بموارد النيل الأزرق، وتعزيز الجهود الثنائية والإقليمية والدولية، من أجل التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم وشامل حول قواعد ملء وتشغيل السد، بما يحقق مصالح الدول الثلاث، ويحد من أضراره على دولتى المصب (مصر والسودان).

دعمت القمة المقترح السودانى لتشكيل رباعية دولية تشمل الاتحاد الإفريقى، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبى، والأمم المتحدة، للتوسط فى هذا الملف، وهو المقترح الذى أصاب إثيوبيا بالذعر، وسارعت برفضه، بما يكشف عن وجهها القبيح، وسوء نياتها.

لو كانت إثيوبيا جادة فعلا لأيدت المقترح السودانى كما أيدته مصر، لأنه مقترح يجمع بين رعاية الاتحاد الإفريقى، ورعاية المجتمع الدولى، بما يهدف إلى التوصل إلى حل عادل ودائم يحقق مصالح الدول الثلاث بعيدا عن التعنت والمراوغة والتسويف.

الأمر المؤكد أن التعنت الإثيوبى يصب فى خانة التقارب المصرى السودانى للارتقاء بالعلاقات الثنائية، وتعزيز الشراكة الإستراتيجية فيما بينهما على نحو يجعل العلاقات المصرية ـ السودانية نموذجا يحتذى به للشراكة التنموية الشاملة والتكامل الاقتصادى.

ولأن الهدف أصبح إقامة شراكة إستراتيجية على مختلف الأصعدة بين مصر والسودان فقد سبق القمة زيارات متبادلة للمسئولين فى الدولتين، وأعقبها زيارة مهمة لرئيس الوزراء السودانى د. عبدالله حمدوك التقى خلالها الرئيس عبدالفتاح السيسى، ورئيس الوزراء د. مصطفى مدبولى.

زيارة رئيس الوزراء السودانى، د. عبدالله حمدوك مصر استهدفت تفعيل تفاهمات القمة المصرية ـ السودانية خاصة فيما يتعلق بتنفيذ مشروعات الربط الكهربائى، والسكك الحديدية، وتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين الدولتين، وتفعيل أنشطة اللجان الفنية المشتركة، وإزالة كل العراقيل التى تعوق تدفق الاستثمارات المشتركة بين الدولتين فى مختلف المجالات.

مصر لديها تجربة ملهمة فى الإصلاح الاقتصادى نجحت خلالها فى عبور أخطر أزمة اقتصادية كانت تواجهها، وتحولت تجربة الإصلاح الاقتصادى التى انطلقت فى مصر منذ نحو 5 سنوات إلى تجربة ملهمة وناجحة أسهمت فى تعزيز قدرات الاقتصاد المصرى، وهى التجربة التى يمر بها السودان حالياً، والتى أكد رئيس الوزراء السودانى د. عبدالله حمدوك استفادة السودان منها فى هذا الإطار، كما أكد رغبة السودان فى تأسيس علاقة إستراتيجية مع مصر على مختلف الأصعدة، وهو ما رحبت به مصر على لسان د. مصطفى مدبولى رئيس الوزراء حينما أكد دعم مصر للسودان فى الخطوات التى تتخذها الحكومة السودانية سواء فيما يتعلق بالإصلاح الاقتصادى أو جهود إحلال السلام فى ربوع السودان.

لغة جديدة فى العلاقات بين الدولتين قائمة على الجدية والمصالح المشتركة، والشراكات الحقيقية فى مختلف المجالات.

هذه اللغة الجديدة أكدها د. عبدالله حمدوك رئيس وزراء السودان خلال الزيارة التاريخية التى قام بها إلى مؤسسة الأهرام يوم الخميس الماضى للالتقاء بالكتاب والمفكرين، وعقد حلقة نقاشية وفكرية معمقة مع الخبراء والمتخصصين بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، بهدف تعميق "المشتركات" بين الدولتين وتفهم "الاختلافات" ودراسة أسبابها، وتقليل آثارها المستقبلية على العلاقات بين الدولتين والشعبين، فى إطار من الفهم العميق للتنوع والثراء فى المكونات البشرية والاقتصادية والإستراتيجية.

فتح رئيس الوزراء السودانى قلبه وعقله فى الحوارات والنقاشات، واستمع بعمق إلى المداخلات والتساؤلات.

تحدث عن أبرز التحديات التى تواجه الدولة السودانية وهى تحديات الديون، وإحلال السلام فى الأراضى السودانية ومايقتضيه ذلك من إسكات للبنادق فى كل ربوع الأراضى السودانية، وكذلك إصلاح الأجهزة الأمنية.

أشار أيضا إلى تحديات المرحلة الانتقالية، وأحزمة التنمية ذات الأولوية السودانية.

لفت انتباه المشاركين فى الندوة تأكيدات د. عبدالله حمدوك أهمية الدور المصرى فى كل تلك التحديات خاصة ما يتعلق بتحديات التنمية الاقتصادية، وإحلال السلام فى باقى ربوع الأراضى السودانية فى المرحلة الثانية، بحيث تتحول العلاقات المصرية ـ السودانية إلى رافعة للعلاقات العربية ـ العربية، والعلاقات الإفريقية ـ الإفريقية.

الحوار كان صريحاً وعميقاً وغاص فى كل المناطق دون خطوط حمراء، وكان رئيس الوزراء السودانى مباشرا وصريحا فى معالجة مختلف القضايا حتى تلك التى قد تكون محل اختلاف بهدف الوصول إلى رؤية مشتركة فيها تجلب الخير للجميع بعيد عن لغة التضاد.

من الواضح أن العلاقات المصرية ـ السودانية انتقلت إلى مرحلة جديدة قوامها الاستفادة من خبرة السنوات الماضية، وتعميق "المشتركات" ومعالجة "الاختلافات" بقدر كبير من الوعى والحكمة بما يصب فى تأسيس علاقة إستراتيجية ثابتة ومستقرة للأجيال القادمة.

هذه المرحلة الجديدة تقوم على سرعة إدراك معالجة سنوات الإهمال التى ضربت العلاقات السودانية ـ المصرية بقصد أو دون قصد، وبغض النظر عن المتسبب فى "البرود" الذى أصاب تلك العلاقة المتينة من الجانبين، فقد دشنت المرحلة الجديدة بين الدولتين الآن نموذجا عمليا فى الدفع بالعلاقات الإستراتيجية إلى أعلى مستوياتها.

يؤكد ذلك مايحدث على أرض الواقع من خطوات متسارعة فى الربط الكهربائى لتوفير احتياجات السودان من الطاقة الكهربائية، وكذلك جدية تنفيذ مشروعات الربط البرى والسكك الحديدية بين الدولتين، ليتحول حلم الانتقال وحرية التنقل بين الشعبين إلى حقيقة واقعة, بعد أن كانت مجرد حلما لسنوات طويلة وممتدة.

أما فيما يخص التعاون الاقتصادى والتبادل التجارى، فهناك رغبة مشتركة لتحويل ذلك التعاون إلى مشروعات فعلية تعود بالخير على الشعبين فى إطار الاستفادة القصوى من الإمكانات المشتركة فى مختلف المجالات، بما يؤدى فى النهاية إلى إزالة كل العوائق التى تحول دون تدفق الاستثمارات، وتحد من حرية تبادل رءوس الأموال، بهدف التمهيد لإقامة مشروعات اقتصادية مشتركة أو أحادية فى البلدين دون أى محاذير أو قيود.

الأمر المؤكد أن الفترة المقبلة سوف تشهد ترجمة أحلام الشعبين المصرى والسودانى فى التعاون المشترك على مختلف الأصعدة إلى واقع ملموس ينهى فترات "البرود" و"الجمود" فى العلاقات بين البلدين، ويؤسس لعلاقة إستراتيجية من نوع جديد تحقق الخير والنماء للشعبين، وتكون قادرة على مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية على السواء.

 

Back to Top