«الريف» أولى بالرعاية فى الجمهورية الثانية

 

بقلم ــ ‬عبدالمحسن سلامة

«ما أحلاها عيشة الفلاح.. مطمن قلبه ومرتاح» تذكرت تلك الأغنية الرائعة التى شدا بها الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، ومن بعده نجاة، وأسمهان، وحفرت مكانها فى القلوب فى أثناء تفقد الرئيس عبدالفتاح السيسى للمعدات والمركبات والآلات الهندسية المشاركة فى مبادرة «حياة كريمة» لتطوير الريف المصرى فى الأسبوع الماضى.

كانت الأرض براحًا فى الريف، والخير كثيرًا، والحياة بسيطة، وهادئة، وكان الكثيرون يتمنون الحياة الريفية لهدوئها، وبساطتها، وروعتها.

الآن انقلب الحال، وضاقت الأرض بما رحبت أمام الأعين، وتحولت الأرض البراح إلى كتل خرسانية شبه عشوائية، وهجر سكان الريف الزراعة لضيق المساحات المتاحة للزراعة والعمل من ناحية أو لقلة عائدها من ناحية أخرى.

تدهورت حالة الريف على مدى أكثر من خمسة عقود، وخلال تلك الفترة انقرضت مساحة الرقعة الزراعية بما يقرب من المليونى فدان، وزحفت العشوائيات إلى الريف وتداخلت الورش والمصانع مع المناطق السكنية دون تخطيط.

انهارت الخدمات، وانتشر «القبح» وغاب الجمال والنظافة، وفى الوقت الذى تم الاهتمام فيه بإدخال مشروعات مياه الشرب لم يأخذ الصرف الصحى الاهتمام الكافى به لتتحول المساقى والترع إلى مقلب عمومى لمخلفات الصرف الصحى من مياه ومخلفات صلبة.

الأخطر هو ارتفاع منسوب المياه الجوفية فى معظم القرى، مما يهدد بانهيار المبانى فى الريف لاعتماد السكان هناك على «البيارات» أو ما يعرف بـ «الطرنشات» فى تخزين مياه ومخلفات الصرف الصحى التى يتسرب أغلبها إلى باطن الأرض.

غياب الريف عن قائمة الأولويات عقودا طويلة من الزمن جعل سكان القرى يلجأون إلى الحلول الذاتية بدءًا من البناء غير المخطط على أى قطعة أرض سواء أكانت ملاصقة للعمران أم وسط الزراعات، مرورًا بحل مشكلات الصرف الصحى عن طريق الوسائل البدائية مثل «الطرنشات» و«كسح» تلك الطرنشات أو الخزانات وإلقاء نواتجها فى الترع والمصارف، وانتهاءً بمشكلات الخدمات الصحية والكهرباء والشباب وغيرها.

على مر التاريخ لا يوجد مشروع محدد تم اطلاقه للاهتمام بريف مصر إلا ذلك المشروع الذى أطلقه الرئيس عبدالفتاح السيسى لتطوير القرى المصرية بشكل عصرى ومتكامل وعلى كل الأصعدة.

الرئيس يستهدف إعادة الريف المصرى إلى رونقه وجماله، وحل المشكلات القديمة والجديدة التى يعانى منها سكان القرى.

وضع الرئيس الريف المصرى على رأس الأولويات فى الجمهورية الثانية لأن ذلك يعنى ببساطة حل مشكلات أكثر من نصف عدد سكان مصر.. أى نحو 60 مليون نسمة، وهم عدد سكان الريف المقدرة نسبتهم بما يقرب من 58% من إجمالى عدد سكان مصر.

 

يمتد المشروع القومى العملاق إلى جميع القرى المصرية البالغ عددها 4741 قرية وتوابعها التى يبلغ عددها 30888 «عزبة وكفرا ونجعا» بهدف الارتقاء بهذه القرى والتوابع اجتماعيًا واقتصاديًا وعمرانيًا.

 

ولأن الرئيس عبدالفتاح السيسى كعادته لا يقبل أنصاف الحلول، ولن يرضى بغير عودة الريف المصرى مشرقًا ومتألقًا، كما كان بعد «عبوس» طويل، فقد تفقد يوم الأربعاء الماضى المعدات والمركبات والآلات المشاركة فى هذا المشروع العملاق ليطمئن بنفسه على كفاءة العمل والإنجاز.

 

كان المشهد «مهيبًا» والمعدات الخاصة بكل محافظة تقف شامخة ومستعدة للانطلاق لكى يتحول الحلم إلى حقيقة خلال الأيام المقبلة طبقًا للخطة الموضوعة التى تتضمن الانتهاء من تطوير القرى المصرية وتوابعها خلال الثلاث سنوات المقبلة.

 

برنامج زمنى طموح بكل ما تحمله الكلمة من معان لأنه ببساطة يعنى أنه لابد من الانتهاء من أربع قرى فى اليوم الواحد، لأن هناك نحو 4741 قرية يجب الانتهاء منها فى 1095 يوما دون احتساب الإجازات والأعياد والمناسبات.

عمل جبار بكل ما تحمله الألفاظ من معان، لذلك كان توجيه الرئيس بأن تكون هناك مجموعة عمل من القوات المسلحة تتابع الأعمال مع مجموعة العمل من الوزارات والأجهزة المعنية لسرعة الإنجاز وتذليل الصعاب وإنجاز المهام على أكمل وجه ممكن.

من المقرر أن يتم تقسيم العمل فى ذلك المشروع العملاق على ثلاث مراحل، وكل مرحلة تستغرق عاما واحدا فقط، وخلال العام يجرى العمل على قدم وساق فى كل القرى التى تدخل ضمن تلك المرحلة، حيث من المقرر الانتهاء من ثلث القرى والتوابع فى كل مرحلة.

تكلفة مشروع تطوير القرى فى مراحله الثلاث ارتفعت إلى نحو 600 مليار جنيه، بما يعنى 200 مليار جنيه لكل مرحلة، ومع ذلك وافق الرئيس على تلك التكلفة الضخمة وهذا التحدى الاقتصادى غير المسبوق لأن الرئيس يعتقد ببساطة كما قال: «هذا واجبنا تجاه بلدنا»، وأن الهدف هو «الخروج بنتيجة تسعد الجميع».

 

من المقرر أن تكون هناك عملية تقييم لكل مرحلة من العمل بحيث يتم تدارك الأخطاء وإنجاز المهام بما يؤدى إلى تغيير حقيقى فى حياة سكان الريف إلى الأفضل.

 

حتى «دهانات» المنازل لن يتم تركها للعمل العشوائى، وإنما ستكون ضمن الخطة الموضوعة بحيث تتم إعادة بناء المنازل الخطرة والآيلة للسقوط أولًا، ثم الانتهاء من كل الخدمات التى تحتاجها القرى من صرف صحى ومياه شرب وكهرباء ورصف ووحدات صحية ومدارس ومراكز شباب وبعد ذلك يتم طلاء المنازل بمشاركة مجتمعية من الأهالى بما يضمن عودة الجمال إلى الريف المصرى مرة أخرى.

 

عملية تطوير الريف لن تكون عملية بسيطة، لكنها عملية صعبة ومعقدة وربما تكون أكثر صعوبة من بناء المدن الجديدة، فالمدن الجديدة يتم تخطيطها وبناؤها وفقًا لأسس ومعايير من البداية حتى النهاية، أما تطوير الريف، فالمشكلة أكثر تعقيداً، لأن المشروع يقوم على إعادة تأهيل القرى المصرية، وتوابعها، وحل مشكلات متراكمة وممتدة منذ السبعينيات، وبالتحديد منذ أن خرجت أعداد كبيرة من أبناء الريف إلى العمل فى الدول النفطية العربية، والعودة بمدخراتهم للبناء على الأراضى الزراعية بشكل غير مخطط.

 

بعدها انتقلت أمراض المدن إلى القرى دون أن تكون القرى مؤهلة لمواجهة تلك الأمراض الخاصة بالزحف العمرانى، والتكدس، ونقص الخدمات، مما ضاعف مشكلات القرى، ومعاناة السكان دون أن تكون هناك حلول جذرية لتلك المشكلات خلال الفترات الماضية.

 

يكفى أن نعرف أن عدد القرى التى كان يوجد بها مشروعات للصرف الصحى قبل مشروع تطوير القـرى كان يبلغ نحو 911 قــرية تقــريبا،ً بنسـبة لا تتجاوز 19% من عدد سكان القرى، بما يعنى أن 81% من قرى مصر كانت ـ ولاتزال ـ محرومة، من خدمات الصرف الصحى.

الصرف الصحى كان ـ ومازال ـ هو المشكلة الأخطر التى تواجه الريف المصرى لأنها ساهمت فى نشر التلوث فى القرى المحرومة.

المشكلة الأخطر التى تأتى بعد مشكلة الصرف الصحى هى مشكلة الطرق، ورصفها حيث لا يوجد سوى طريق واحد مرصوف فى كل قرية، وهذا الطريق «المرصوف» هو «مرصوف» اسما وليس فعلاً، لأن الطريق متهالك، ومملوء بالحفر والمطبات والفرق بينه وبين الطرق الأخرى أن به بقايا رصف، فى حين أن الطرق الأخرى «ترابية» تماماً، ولم تعرف الرصف من قريب أو بعيد.

يتفاوت حجم المشكلات ونوعيتها من قرية إلى أخرى، ومن محافظة إلى أخرى، بمعنى أن المحافظات البعيدة فى الدلتا والصعيد ربما تكون أوضاع القرى بها أكثر سوءا وعشوائية من قرى المحافظات القريبة من العاصمة.

 

على الجانب المقابل فإن القرب من العاصمة ليس كله خيراً لأن القرى القريبة من العاصمة رغم أنها أحسن حالاً من قرى الصعيد «الجوانى» والقرى الأخرى البعيدة، إلا أن المشكلة فى تلك القرى أنها استقبلت أعداداً كبيرة من النازحين إلى القاهرة، والذين لم يجدوا لهم مكاناً للإقامة سوى السكن بالقرب من القاهرة فى تلك القرى القريبة، وزحفوا إليها بأعداد كبيرة لينقلوا إلى تلك القرى أمراض المناطق العشوائية، وسلوكيات سكان تلك المناطق المختلفة عن سلوكيات أهل الريف بتركيبته السكانية الفريدة، والمتميزة بالترابط والانسجام العائلى.

أعتقد أن مشروع تطوير الريف المصرى هو المشروع الأضخم فى العصر الحديث ويستهدف إعادة صياغة القرية المصرية من جديد لتعود عنوانا للجمال والنظافة والبهاء، وهو تحد ضخم لكن ما حدث فى مصر خلال السنوات السبع الماضية، يجعلنا نثق تماماً فى نجاح هذا المشروع العملاق، ليعود الريف المصرى كما غنى له عبدالوهاب ونجاة وأسمهان، ولكن بشكل عصرى وحديث.

Back to Top