العبور «الأول» بوابة العبور «الثانى »

بقلم ــ عبدالمحسن سلامة

الزمان: الأيام الخمسة الأولى من شهر أكتوبر 1973.

المكان: الأجواء السياسية والعسكرية فى مصر والمنطقة.

كانت الأحداث السياسية والعسكرية مشتعلة وخرجت صحيفة «الأهرام»، وعلى مدى 3 أيام متتالية بالمانشيت الرئيسى لها تتابع قرار المستشار النمساوى برونو كرايسكى بإغلاق مركز تجمع المهاجرين إلى إسرائيل، وإلغاء التسهيلات التى ظلت النمسا تقدمها لأكثر من 3 سنوات لعمليات التهجير اليهودية.

الرئيس أنور السادات قرر إرسال مبعوث خاص هو السيد إسماعيل فهمى وزير السياحة آنذاك لمقابلة المستشار النمساوى ونقل تقدير مصر العميق ـ حكومة وشعبا ـ لقراره.

وقع الاختيار على السيد إسماعيل فهمى لأنه كان سفيرا لمصر فى النمسا على مدى 3 سنوات وله صلة عميقة بالمسئولين فى فيينا.

فى اليوم التالى أرسل المستشار النمساوى برقية إلى سفارته فى القاهرة يرحب فيها باستقبال المبعوث الخاص للرئيس السادات فور وصوله إلى فيينا، وفى الوقت نفسه نشرت «الأهرام» تفاصيل الاجتماع الذى دار بين المستشار النمساوى ورئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير.

كان الاجتماع بينهما عاصفا وبعد الاجتماع أكد المستشار النمساوى عدم الرجوع فى قرار إغلاق معسكر تهجير اليهود، وأنه لم يحدث أى اتفاق مع رئيسة وزراء إسرائيل بهذا الشأن.

فى اليوم الثالث عقد المستشار النمساوى اجتماعا مطولا مع مبعوث السادات الخاص استمر لمدة ساعتين، سلم فيه إسماعيل فهمى رسالة مكتوبة من الرئيس السادات إلى المستشار النمساوى.

أكد كرايسكى للمبعوث المصرى أن حكومته اتخذت قرار إغلاق معسكر تجميع اليهود المهاجرين إلى إسرائيل بعد دراسة جادة ومستفيضة, مؤكدا أن القرار لم يتخذ تحت أى ضغط، ولن يتم سحبه أو الغاؤه تحت أى ضغط، بل إن المستشار النمساوى صعد من لهجته قائلا «إنه يفضل الاستقالة على أن يرغمه كائن من كان على إعادة النظر فى قراره».

يوم الخامس من أكتوبر خرجت الأهرام بالمانشيت الرئيسى «توتر حاد على الجبهة السورية يهدد بالانفجار فى أى وقت» وأشارت الأهرام إلى أن الحشود العسكرية الإسرائيلية على الخطوط تتزايد بشكل خطير تحت مظلة من الطيران فوق المنطقة كلها.

وفى ذات العدد كتب هيكل مقاله «بصراحة» وفى بداية مقاله كتب العبارات التالية «كنت قد استعرت عبارة شهيرة من زعيم الصين «ماوتسى تونج» يقول فيها «احملوا السلاح دفاعا عن حدودكم، وتأملوا فى الوقت نفسه أحوال العالم وراء هذه الحدود... وافهموا».

العبارات ذات مغزى عميق وتشير إلى ضرورة حمل السلاح أولا ثم الحديث مع العالم بعد ذلك، ثم شرح هيكل فى ذات المقال تفاصيل العلاقة بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) ومجالات التعارض بينهما فى أوروبا الغربية والشرق الأوسط.

يوم السادس من أكتوبر خرجت الأهرام تؤكد اتساع التوتر على كل جبهات القتال خاصة جبهة قناة السويس، وأشارت إلى أن إسرائيل تغطى تحركاتها العسكرية وتصعيدها للموقف بإذاعة أنباء عن نشاط عسكرى مصرى فى القناة.

فى نفس العدد نشرت الأهرام تقارير عن اجتماع وزير الخارجية المصرى د.محمد حسن الزيات مع وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر فى نيويورك وإجراء محادثات فيما بينهما اتسمت بالموضوعية والصراحة، وأوضح فيها وزير الخارجية المصرى لوزير الخارجية الأمريكى موقف مصر إزاء العدوان الإسرائيلى.

كانت هذه الأجواء والأحداث الساخنة مسيطرة على كل الجبهات العسكرية والسياسية آنذاك، فالترتيبات العسكرية تتم على أعلى مستوى، وفى ذات الوقت هناك تحركات سياسية على أعلى مستوى كذلك وعلى كل المحاور.

كل ذلك وقرار الحرب محاط بسرية تامة خاصة فى ظل أجواء شهر رمضان المعظم واحتفالات إسرائيل بيوم كيبور (الغفران) وهو أكبر الأعياد الدينية اليهودية.

ظلت هذه الأوضاع سائدة طوال الأيام الخمسة الأولى من شهر أكتوبر عام 1973 حتى كانت الساعة الثانية ظهرا يوم السادس من أكتوبر لتتغير الأحوال والأقوال بعد أن قامت القوات المسلحة المصرية بعبور قناة السويس، واقتحام خط بارليف، ودك حصون القوات الإسرائيلية.

أذيع البيان الأول الصادر عن القيادة المصرية فى الساعة الثانية والربع بعد ظهر يوم السبت الموافق السادس من أكتوبر 1973 والذى أشار إلى أن قوات العدو قامت بمهاجمة قواتنا المسلحة فى الزعفرانة والسخنة، وقامت القوات المسلحة بالتصدى للقوات المغيرة.

البيان الثانى أذيع فى الثانية و 35 دقيقة وفيه تم الإعلان عن قيام القوات الجوية بقصف مواقع العدو وأهدافه العسكرية فى الأراضى المحتلة.

البيان الثالث كان بيان النصر الذى أعلن نجاح القوات الجوية فى تنفيذ كل مهامها بنجاح وعودة جميع الطائرات إلى قواعدها سالمة عدا طائرة واحدة.

توالت بيانات النصر على مدى أيام معركة أكتوبر المجيدة، ليسجل الجيش المصرى أعظم انتصارات العرب فى العصر الحديث.

طوال عقود عديدة ومنذ قدوم الاحتلال الأجنبى إلى المنطقة فى القرن الـ 19 لم يعرف العرب سوى الهزائم فى المعارك الحربية بعد أن زحف المستعمر الأجنبى على الأراضى العربية وتم تقسيم المنطقة العربية إلى مناطق نفوذ للاحتلال البريطانى والفرنسى والإيطالى.

زرع المستعمر إسرائيل فى المنطقة فى القرن العشرين بعد صدور وعد بلفور المشئوم بإنشاء وطن قومى لليهود عام 1917، وظهرت إسرائيل إلى الوجود عام 1948 بعد هزيمة الجيوش العربية، وإعلان قيام دولة إسرائيل.

بعد 1948 كانت هزيمة 1967 هى الأعنف على المنطقة كلها حيث التهمت إسرائيل باقى الأراضى الفلسطينية، وأحتلت أجزاء كبيرة من مصر وسوريا والأردن ولبنان.

بعدها نجح الجيش المصرى بسرعة فائقة فى بناء قواته، وخاض حربا استباقية مهمة وإستراتيجية هى حرب الاستنزاف التى كبد فيها العدو الصهيونى خسائر فادحة.

فى السادس من أكتوبر 1973 أصدر الرئيس الراحل أنور السادات بطل الحرب والسلام قرار العبور ليتحقق النصر الأول والأهم للعرب بعد عقود طويلة من التراجع والهزائم فى العالم العربى.

جاءت حرب أكتوبر المجيدة لتعيد ثقة الجيش المصرى بنفسه، وتعيد ثقة الشعوب العربية كلها من المحيط إلى الخليج بأنفسهم، وكسرت فى ذات الوقت أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر بعد هزيمته وكسر شوكته فى معركة غيرت موازين القوى فى العالم.

كان العبور الأول فى أكتوبر 1973 هو مفتاح استرداد كل الأراضى المصرية بالحرب ثم السلام لتعود سيناء كاملة إلى حضن الوطن الأم.

بعد 48عاماً من العبور الأول اتخذ الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية قراره بالعبور الثانى وتدشين الجمهورية الجديدة على كامل الأراضى المصرية.

فى الجمهورية الجديدة أصبح الجيش المصرى هو تاسع أقوى الجيوش العالمية، والأول عربياً وإفريقيا وشرق أوسطياً.

قام الرئيس عبدالفتاح السيسى بتسليح الجيش المصرى وفق إستراتيجية جديدة قائمة على تنويع مصادر تسليح القوات المسلحة من فرنسا، وروسيا، وألمانيا، والولايات المتحدة، وغيرها من دول العالم المختلفة، بالإضافة إلى زيادة التصنيع المحلى من كل الأنواع والطرازات المختلفة.

فى مجال التدريب المشترك تقوم القوات المسلحة بالعديد من التدريبات المشتركة مثل النجم الساطع، وميدوزا، وحماة النيل، ونسور النيل، ودرع العرب،. وغيرها من التدريبات المشتركة مع أفضل الجيوش العالمية والعربية والإفريقية.

انطلقت الجمهورية الجديدة لتضاعف مساحة المعمور من الأراضى المصرية من 7% إلى 14% أى أنها تستهدف إضافة مساحة عمرانية تعادل 100% من إجمالى المساحة الموجودة حالياً تتمثل فى إقامة جيل ضخم ومتكامل من المدن الجديدة (أكثر من 14 مدينة جديدة) إلى جوار إقامة عاصمة إدارية جديدة تعتبر نقلة نوعية جبارة فى هذا المجال.

بجانب المدن الجديدة والعاصمة الجديدة يجرى العمل على إضافة ما يقرب من 4 ملايين فدان للرقعة الزراعية تعادل أكثر من 50% من الأراضى الزراعية الموجودة منذ آلاف السنين.

فى الأسبوع الماضى وبالتحديد يوم الإثنين قام الرئيس بافتتاح أضخم محطة لمعالجة مياه الصرف فى العالم «محطة بحر البقر» بتكلفة 20 مليار جنيه، وهى المحطة التى تسهم فى استصلاح واستزراع 500 ألف فدان فى سيناء.

ما تم تنفيذه من مشروعات فى سيناء منذ العبور الأول عام 1973، حتى عام 2014 أى على مدى 41 عاماً لا يتعدى بضع عشرات من المليارات من الجنيهات فى حين أن حجم الإنفاق منذ عام 2014 حتى الآن يتجاوز الـ 700 مليار جنيه بعد اكتمال جميع المشروعات التى يجرى تنفيذها الآن.

العبور الثانى لمصر امتد إلى إقامة أضخم شبكة من الأنفاق والطرق، والمحاور، والبنية التحتية فى كل أنحاء مصر، وتدشين أضخم مشروع للتنمية البشرية على مستوى العالم وهو مشروع تطوير القرى المصرية بتكلفة أكثر من 700 مليار جنيه.

صحيح أن العبور الأول فى أكتوبر 1973 كان هو البداية الحقيقية لعصر الانتصارات وعودة كل شبر من الأراضى المصرية, لكن من المؤكد أيضا أن العبور الثانى الذى تخوضه مصر حالياً هو تدشين حقيقى للجمهورية المدنية العصرية الحديثة التى يحلم بها كل مواطن مصرى على كل شبر من الأراضى المصرية، وهو الحلم الذى كان مؤجلا عقوداً عديدة حتى ظهر وجار تحقيقه الآن.

 

Back to Top