الاقتصاد الوطنى والتغلب على «موجة» كورونا «التضخمية»

الاقتصاد الوطنى والتغلب على «موجة» كورونا «التضخمية»

بقلم ــ ‬عبدالمحسن‭ ‬سلامة

تصر «كورونا» على أن تضرب العالم بعنف قبل رحيلها، وها هى هذه المرة تضرب الاقتصاد العالمى لتعيد إلى الأذهان ما حدث عام 2008 من كساد كان هو الأسوأ منذ زمن الكساد الكبير فى عام 1929.

بدأت الأزمة الاقتصادية العالمية فى عام 2008 فى الولايات المتحدة الأمريكية ثم امتدت إلى الدول الأوروبية والآسيوية والدول الخليجية، وكذلك الدول النامية خاصة تلك الدول التى يرتبط اقتصادها بالاقتصاد الأمريكى.

انهار 19 بنكا فى أمريكا وانهارت البورصات بسبب أزمة الرهن العقارى، وامتد الأمر إلى بريطانيا والعديد من الدول الأوروبية ودول العالم المختلفة، ونتج عن ذلك انخفاض السيولة فى البنوك وعدم القدرة على تمويل المشاريع الجديدة، وانخفاض الطلب مع زيادة المعروض، ومن ثم فقد تم إشهار إفلاس العديد من المؤسسات المالية والاقتصادية والصناعية، مما أدى إلى موجة كساد اقتصادى ظهرت مؤشراته فى إعلان الدول الصناعية الكبرى دخول اقتصاداتها مرحلة الركود.

حينما هبطت «كورونا» بمتاعبها ومشاكلها وأخطارها نتجت عنها سلسلة من الإجراءات فى دول العالم المختلفة تراوحت ما بين إغلاق تام، وإغلاق جزئى، وأدى ذلك إلى اضطراب فى سلاسل الإمدادات العالمية.

اضطراب سلاسل الإمداد جاء بسبب توقف مصانع عن العمل خلال فترة كورونا وتراجع حركة التجارة العالمية، وإغلاق كل دولة على نفسها بقدر المستطاع، وهو ما أدى أيضا إلى تعطل حركة الاكتشافات البترولية على مستوى العالم بعد هبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها.

حينما حاول العالم العودة إلى المسار الطبيعى كانت دورة الاقتصاد العالمى غير مكتملة الأركان بسبب سقوط بعض الحلقات من سلاسل الإنتاج، والتوزيع، والنقل.

من هنا حدثت الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية التى تخيم على أسواق العالم الآن، والتى أدت إلى ظهور موجة تضخمية جديدة ضربت اقتصادات دول العالم المختلفة.

لا توجد دولة يمكن أن تكون بمنأى عن التأثيرات الاقتصادية العالمية، والفرق فقط يكمن فى نسبة التأثير، وهل التأثير يكون حادا أم طفيفاً؟

فى مصر التأثير كان طفيفاً بسبب تلك الخطوات الجبارة التى قامت بها مصر منذ نحو 5 سنوات، وحققت من خلالها الإصلاح النقدى والاقتصادى.

ذكرنى محافظ البنك المركزى طارق عامر بتلك المواجهة التى حدثت منذ خمس سنوات حينما أرسل لى شريط فيديو يرجع تاريخه إلى أغسطس عام 2016 يجمعه مع وزير المالية السابق عمرو الجارحى بعد أن اتخذ الرئيس عبدالفتاح السيسى قراره التاريخى بقبول التحدى وإجراء الإصلاح الاقتصادى الشامل وتحرير سعر الصرف.

كان الاقتصاد المصرى حينذاك فى أسوأ أحواله وكانت مصر مقبلة على «الإفلاس» لا محالة إن هى ظلت متجمدة دون إصلاح حقيقى.

انحاز الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى مصلحة الدولة والمواطن دون حسابات «شعبوية» قصيرة النظر لتبدأ رحلة ناجحة مكتملة من خطوات الإصلاح الاقتصادى والنقدى.

دخلت مصر فى مفاوضات جادة مع صندوق النقد وكان المهندس شريف إسماعيل مساعد رئيس الجمهورية للمشروعات القومية حاليا هو رئيس الوزراء حينذاك الذى نجح وحكومته فى توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولى، بعد مفاوضات شاقة وناجحة وبعدها بعدة أشهر وبالتحديد فى نوفمبر 2016 تم تحرير سعر الصرف لتختفى السوق السوداء للعملات الأجنبية.

كان هناك أكثر من سعر صرف للعملات الأجنبية، ما بين سعر معلن داخل البنوك، وأسعار أخرى كثيرة خارج البنوك، ونتج عن تلك الفوضى اختفاء العملات الأجنبية وانهيار الاحتياطى النقدى إلى أدنى مستوياته.

كان سعر الدولار يلامس الـ 20 جنيها، وانهار الاحتياطى النقدى إلى ما يقرب من 13 مليار دولار معظمها ودائع وقروض.

نجحت الخطة الأولى للإصلاح الاقتصادى، وعاودت عجلة الإنتاج الدوران بقوة مرة أخرى، ودخلت مصر عصر المشروعات القومية العملاقة فى مختلف المجالات التنموية (الإسكان والمرافق، والصناعة، والزراعة، والبنية التحتية، وغيرها).

تحولت مصر إلى خلية عمل دائمة فى كل المجالات، وعلى امتداد طول الوطن وعرضه، وربما كان تصريح د.مصطفى مدبولى فى أثناء زيارته الوادى الجديد يوم الخميس الماضى، التى أشار فيها إلى توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى بعدم ترك أى جزء من مصر دون أفضل استغلال ممكن، وهو الذى يعبر بصدق عن حالة مصر الآن.

أراد د.مصطفى مدبولى النشيط والدءوب تأكيد اهتمام الرئيس والحكومة بكل شبر من الدولة المصرية فى الوادى الجديد أو أى محافظة أخري؛ لأن النجاح لا يتجزأ، ولابد أن تكون سلاسل العمل والإنتاج ممتدة على كل أراضى الدولة المصرية.

نجاح الإصلاح الاقتصادى لعب الدور الرئيسى فى قدرة الاقتصاد الوطنى على مواجهة تحدى كورونا التى هبطت كالصاعقة على الاقتصادات العالمية.

صمد الاقتصاد المصرى ونجح أن يكون ضمن اقتصادات عدد قليل من الدول التى حققت نموًا إيجابيًا خلال عام كورونا. أيضا حافظ الاقتصاد المصرى على مستوى تصنيفه الائتمانى عند مستوى «B2» مع الإبقاء على النظرة المستقبلية المستقرة، مما يعكس ثقة المؤسسات الدولية فى صلابة الاقتصاد المصرى، وقدرته على التعامل مع الأزمة التضخمية الطارئة التى تواجه الاقتصادات العالمية الآن بسبب تداعيات أزمة كورونا.

تعافى الاقتصاد المصرى، وصموده فى مواجهة جائحة كورونا، جعل من التجربة المصرية فى الإصلاح الاقتصادى محل إشادة دولية، وتوقعت مؤسسة «فيتش» أن تكون مصر هى الأعلى من حيث نمو الناتج المحلى فى منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا على مدى السنوات الأربع المقبلة إن شاء الله.

 

هذا التعافى والنجاح كان وراء قدرة الدولة المصرية على اقتحام أكبر مشروع تنموى فى العالم وهو مشروع تطوير الريف المصرى الذى يستفيد منه نحو 60% من سكان مصر وبتكاليف تصل إلى أكثر من 700 مليار جنيه على مدى ثلاث سنوات .

 

يبقى التحدى الطارئ الجديد وهو مدى قدرة الاقتصاد المصرى على مواجهة تلك الموجة »التضخمية« الجديدة التى ضربت الاقتصادات العالمية بسبب أزمة سلاسل الإمدادات التى تأثرت بفعل جائحة كورونا.

 

سألت د. محمد معيط وزير المالية عن الاستعدادات لمواجهة تلك الموجة وتأثيراتها السلبية ومتى تنتهى؟

 

أجاب وزير المالية: نجاح الاقتصاد المصرى خلال الفترة الماضية جعله أكثر قدرة على مواجهة الصدمات، لأن هناك مزايا عديدة فى الاقتصاد المصرى أهمها تنوعه، ومرونته، وعدم «قوقعته»، مما يعطى القدرة على التحرك والمواجهة.

 

وأضاف: كورونا قللت الموارد، وأدت إلى زيادة المصروفات، ورغم كل ذلك كان معدل الديون إلى الناتج قبل كورونا 90.4% والآن لم يزد على 91.4% أى أن معدل الدين تحرك فى حدود 1% فقط، فى حين أن هناك دولاً أخرى من الدول المتقدمة زاد فيها الدين إلى نحو 20%، والدول الناشئة 15% فى حين أن مصر لم يزد فيها معدل الدين على 1%. الأهم من ذلك أن خدمة الدين كانت تصل قبل كورونا إلى 40% ، والآن انخفضت إلى 36%. كان المستهدف أن نصل إلى انخفاض معدل الديون إلى أقل من 80% لولا كورونا، خاصة بعد أن نجحنا فى تخفيضه من 108% قبل كورونا إلى 90.4% بعدها ومع ذلك نجح الاقتصاد المصرى فى الحفاظ على قوته، ومرونته، وتصنيفه الائتمانى، ومعدلات النمو الإيجابى. وأشار د. محمد معيط إلى تقرير صندوق النقد الدولى الذى صدر فى أبريل الماضى حول أزمة كورونا وتعامل الدول الأعضاء معها، والذى أكد أن مصر كانت من أفضل الدول التى وضعت نظاماً متوازناً لمواجهة تلك الأزمة مما أدى إلى الحفاظ على معدل نمو إيجابى بلغ نحو 3.6%، ومن المتوقع أن يرتفع فى العام المقبل إلى 5.5%.

وماذا عن الموجة التضخمية الجديدة؟!

أجاب وزير المالية: الموجة التضخمية سببها أزمة سلاسل الإمداد العالمية التى نتج عنها ارتفاع أسعار الوقود وبالتالى ارتفاع أسعار الشحن والنقل، وارتفاع أسعار السلع مشيراً إلى أنه من المتوقع استمرار تلك الأزمة حتى منتصف العام المقبل ليعاود الاقتصاد العالمى حيويته واستقراره مرة أخرى.

وما مدى التأثير على الاقتصاد المصرى؟!

أجاب د. محمد معيط: أكيد هناك تأثير لكنه محدود للغاية بعد أن نجح الاقتصاد المصرى فى التحدى الأصعب خلال المرحلة الماضية. وأشار إلى القرار الجرىء الذى أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسى بإلغاء حالة الطوارئ الذى كان له أكبر الأثر فى قطاع الاستثمار، وزيادة حجم الاستثمارات المتوقعة خلال المرحلة الماضية. وأضاف لدينا مخزون كاف من السلع الإستراتيجية، وهو ما يعزز من قدرة الاقتصاد المصرى على امتصاص تلك الأزمة، وتدارك آثارها السلبية إلى أدنى مستوى ممكن، بما لا يؤثر على احتياجات المواطن الأساسية، وأكبر دليل على ذلك توافر السلع بكل أنواعها فى حين تنحصر الزيادة فى أسعار بعض السلع بمعدلات طفيفة، وهو ما تواجهه الحكومة من خلال الموازنة العامة، وبما يتناسب مع كل المواقف المتوقعة.

أعتقد أن الاقتصاد المصرى قد نجح فى تخطى المراحل الأصعب خلال الفترة الماضية بدءاً من مرحلة الإصلاح الأولى منذ خمس سنوات ومروراً بمواجهة جائحة كورونا واحتفاظ الاقتصاد المصرى بثباته واستقراره، ويبقى التحدى الطارئ الأخير الأقل خطورة، لأنه يحمل العديد من الفرص للاقتصاد الوطنى خاصة ما يتعلق بزيادة حجم الصادرات المصرية إلى الأسواق العالمية، وتقليل الواردات الهامشية التى ليست لها ضرورة، وكلها نقاط قوة تؤدى فى النهاية إلى تحقيق المزيد من المكاسب للاقتصاد المصرى خلال المرحلة المقبلة إن شاء الله.

Back to Top